الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٢ - الجمعة ١٥ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٥ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


حرية التعبير في العهد العربي الإسلامي وتطورها حديثاً





لقد جاء في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لعام ١٧٨٩، في تحديده لمفهوم الحرية بأنها «حق الفرد في أن يفعل كل مالا يضر بالآخرين».

وفي سياق آخر لتحديد مفهومها يمكن القول إنها«انعدام القيود، أي القدرة على التصرف، من دون أي تحريم أو قيد يُفرض من الخارج على هذه القدرة».

لقد دعا الدين الإسلامي إلى العلم والإبداع، وأطلق بذلك حريات التعبير وإبداء الرأي، بلا تحفظ أو شرط، حرصاً منه على إطلاق العنان، لأعمال التفكير الإنساني، والذي يمثل مرتبة عظيمة في حقيقة الدين الإسلامي وجوهره العظيم.

في الآية الكريمة «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن»، هذه دعوات في غاية الروعة من الكمال والتهذيب والخلق، وفيها مساحة كبيرة من حريات التعبير، والتي تنطلق من قواعد أدب الاختلاف، ومساحة التفاهم والحوار.

ان المتفحص في العهد العربي الإسلامي، يرى بوضوح إشارات حضارية لمبدأ حرية التعبير، كما في التراث العربي الإسلامي.

لا أحد فوق النقد أو الاعتراض، حقوق النصح مكفولة، كلها شعارات إسلامية عميقة في معانيها، لقد قام الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم)، بتأصيل هذه الشعارات الإسلامية، في مسيرة الحياة الحضارية في صدر الإسلام، وهذه الشعارات هي الخطاب الأول للحكام، وثمة تشجيع للرعية لإبداء انتقاداتهم واعتراضاتهم، من دون أي رهبة أو خوف، طالما هي تصب في صالح الرعية وصالح الإسلام والمسلمين.

كما أن حقوق المعارضة المدنية مكفولة، طالما هي في إطار حريات إبداء الرأي والتعبير والاعتراض، ولم تستخدم السلاح لغرض ما في فرض آرائها ومعتقداتها السياسية.

ولو أردنا تبيين أبرز خطوط المعارضة في صدر الإسلام الأول، يتكشف لنا انها كانت بطبيعة حزبية منظمة، هدفها الأساس الوقوف بوجه الإسلام وتحطيمه، وخلق البلبلة والتفرق في صفوف المجتمع الإسلامي الأول، وكانت ضمن خلايا داخلية من الكفار والمشركين، وتيار المنافقين، وتيار اليهود، ومن جماعات خارجية، تريد الشر بالمسلمين.

ومع هذا الزخم الكبير من فلول المعارضة، وتفرعها وتشعبها، فكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) يقابل ذلك كله بالمداراة وحسن السلوك والصبر والحلم، وهذا ما يعبر عنه في وقتنا الحاضر، بضبط النفس، واستعمال الدبلوماسية السياسية، والتعامل الحضاري.

وكذا الحال مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومعارضة (الخوارج)، فقد اعترف لخصومه بالكلام وبالرأي، حتى ما وصلوا إليه من تكفيرهم للإمام علي والانتقاص منه، لم يتعرض لهم بسوء، وكان يجزل لهم العطاء من بيت المال، وحينما أراد بعض أصحاب الإمام قتالهم، اعترض الإمام وقال: «إن سكتوا تركناهم، وان تكلموا حاججناهم، وإن أفسدوا -حملوا السيف- قاتلناهم». (حرية المعارضة في الإسلام، فاضل الصفار).

ولعل من فضائل حريات التعبير، التقدم والازدهار، في جميع الحقول العلمية والفنية والأدبية، وتنامي حركة الترجمة والنشر وغيرها.

وما نراه من مسيرة حركة تطور الفكر الإسلامي عموماً، وتاريخ المدارس العلمية العربية، وشيوع المذاهب والآراء الفقهية، وظهور مدارس فكرية، وكثرة المصنفات العلمية، وبروز الرأي والرأي الآخر، هو مؤشرات حسنة وطيبة، للمناخ الحسن الذي تفرزه إطلاق حريات التعبير، في الحضارة العربية الإسلامية.

وقيل إن رجلاً من العرب أغلظ القول لأمير المؤمنين الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، إذ قال له: اتق الله يا عمر، وقد استفز ذلك أحد حضور هذا الاجتماع، فرد على القائل: ألِمثلِ أمير المؤمنين يقال هذا الكلام؟ فتدخل عمر (رضي الله عنه) وقال «لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فيَّ أن لم أسمعها».

هنا إشارة لطيفة، إلى أهمية الاستماع للرأي والرأي الآخر، حتى لو كان الطرح فيه من الشدة والانفعال. (الحقوق والحريات العامة، عايد المناع).

وقد تكون الظروف السياسية مواتية لمزيد من إطلاق حريات التعبير، فقد وجد الإمام الصادق في عصر ما، ما بين نهاية الدولة الأموية، وبداية الدولة العباسية، الفرصة المواتية، بنشر العلوم والمعارف، وتشييد الجامعة الإسلامية، التي تخرج فيها الكثير، من أرباب العلم وأصحاب المذاهب كالإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان، وسفيان الثوري وغيرهم.

في عصره، شاعت المذاهب الفلسفية والاعتقادات، والزندقة وغيرها من الآراء، التي واجهها، بعد أن استمع إليها، بالحجج والبراهين، وبالعلم الصحيح، وبالرأي السديد، والمنطق السليم.

وبموجب التطورات الحديثة والمعاصرة. في حقل حقوق الإنسان، وإطلاق منظومة الحريات العامة، فقد أخذت حريات التعبير، بعداً كبيرا ضمن نطاق الحريات العامة، وتبلورت ضمن أطر تنظيمية وحقوقية دولية.

وكثير من الدساتير الوضعية العربية، غالباً ما تتضمن بنوداً تتعلق بإطلاق مثل هذه الحريات.

من يراقب عن قرب المشهد العربي لحريات التعبير، يرى بوضوح أن الخطاب العربي يشوبه ما يُسمى (نظرية المؤامرة)، أو قد يكون مشبعا به، كمؤشر لدوافع نفسية، أو إيقاع اللوم على الآخرين.

خطابنا العربي، بعيد كل البعد عن المصالح العامة، أو ما تسمى «المصلحة الوطنية العليا»، والتي يستفيد منها كل المواطنين بما يحقق النفع العام، والمصلحة العامة.

سيكولوجية هذا الخطاب، نراه مفعما بالعاطفة، وميالا للمدح، وإذا ما كان موضع نقد، فإنه يصدر الأحكام المتسرعة، والتهويل والمبالغة، ولا يعتمد على دراسات وحقائق علمية، فضلا عن الأدلة والبراهين. (دور حرية التعبير في الازدهار الحضاري، د. سلامة محمد البلوي).

كما أن الخطاب الفئوي أو الطائفي حاضر في الساحة، وبكل قوة، مما ينذر بأزمة شرخ اجتماعي، وتهديد للسلم الأهلي، ودعوات إلى التأجيج.

وقد كفلت بلادنا العزيزة، هذه الحريات، وأطلقتها بلا رقابة ولا حساب، وتأتي هذه الحريات العامة، متواكبة مع النهضة الديمقراطية التي عاشتها البلاد طوال أكثر من عقد من الزمن. بالمشروع الإصلاحي الكبير، لجلالة الملك المفدى (حفظه الله ورعاه).

وتتوافق حريات التعبير، مع حريات الصحافة، والتي شهدت مع الطفرة الإصلاحية، نقلات نوعية متميزة، على صعد إطلاق حريات الصحافة، وحرية النشر من دون رقابة مسبقة، وما إلى ذلك من ضروب الحريات.

وإننا مع انتظار قانون عصري للصحافة، يدعم ويعزز مسيرة حريات التعبير، والحريات العامة بمملكتنا الزاهرة.

moc.liamtoh@٤٦REDIAH-S



.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة