الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


من رأسماليةِ الدولةِ إلى الرأسماليةِ الحرةِ

تاريخ النشر : السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢

عبدالله خليفة



على مدى عقود ثرثر وخربَ البرجوازيون الصغار مسارات التطور العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحاولوا ابتكار أنظمةً والقفز على المسارات الموضوعية للتطور، وجربوا في لحومِ الشعوب ثم كانت النتائج المأساوية؛ الارتداد للوراء، وتمزيق الخرائط العربية السياسية، وإثارة الحروب، وتصعيد القوى الرجعية والطائفية، وحدوث الحيرة العربية الهائلة والانقسام الشديد تجاه سبل التطور.
لقد آن أوان مساعدة البرجوازيات العربية على تولي الإدارات الاقتصادية والسياسية وتشكيل مجتمعات عربية ديمقراطية.
برجوازياتٌ تحديثية «نهضوية» علمانية ديمقراطية وطنية تجمعُ فسيفساءَ الطوائفِ والفئات المبعثرة، وتقيمُ إداراتٍ حسب التعددية وتداول السلطات وعدم العبث بالمال العام وتصعدُ الحريات المختلفة؛ حرية الصحافة، وحرية الاجتماع، والتظاهر السلمي، وحرية التنفس في جو نقي طبيعي غير الجو الملوث بكلِ أشكال القيود والتدخلات في الحياة الخاصة.
وأن تفصل المال العام عن الخزائن الخاصة، وتقوم بتحولات اقتصادية شعبية كبيرة لانقاذ الملايين من شظف العيش.
مواقفُ كتل البرجوازيات الصغيرة الضاجة بالجمل الثورية الملتهبة والصخب والمتلاعبة على حبال السياسة والشركات والمال، هو أمرٌ تاريخي «موضوعي»، فمع غيابِ الطبقتين الأساسيتين للإنتاج الحديث عن تداول السياسة والمعرفة والتأثير الانتخابي وهما البرجوازية والعمال فإن قوى ما قبل الرأسمالية الحديثة من ملاك الأرض وأصحاب النفوذ الكبير في الإدارات وسلبية رجال الأعمال تجاه التنظيمات السياسية والفكرية والإعلامية والنأي بأنفسهم عن أي (تورط) في المشاكل العامة، وتكلس الأحزاب العمالية واختراقها من قبل الطائفيين والمغامرين والرجعيين، أصبحت الساحاتُ محصورةً في فرق البرجوازية الصغيرة الاستعراضية في كل مجالات الثرثرة السياسية والتجريب في الدول العربية. ولكن ليست لبضع سنوات، وفي موسم واحد بل في عقود وفي مواسم كثيرة، وحقول محروقة كبيرة.
يشبه هذا الموقف موقف الحياة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر وما بعده، حيث انتشر أمثال «رفاقنا» هؤلاء الصخابين بالعنتريات الثورية والادعاءات الايديولوجية، في ألمانيا الممزقة بين دويلاتٍ ودولٍ وإقطاعيات عديدة، والباحثة عن طريق النهضة التي سبقتها إليه انجلترا وفرنسا.
أحدُ مؤسسي الماركسية وهو فريديريك أنجلز وهو المنفي خارج بلده يتابعُ ما يجري من صخب ايديولوجي سياسي في وطنه المُبعَد عنه ويكتبُ عن الأوضاع فيه، لنستمع إلى ما يقوله هذا المعادي الكبير للرأسمالية:
«كيف يمكن تجاوز الفقر؟ هناك طريقة واحدة ممكنة: لابد لطبقةٍ واحدة أن تكون قوية بما يكفي لتجعل نهوض الأمة بكاملها معتمدا على نهوضها، لتجعل تقدم مصالح الطبقات الاخرى معتمدا على تقدم مصالحها. يتعين أن تصبح مصالح هذه الطبقة الواحدة في الوقت الراهن مصلحةً قوميةً ويتعينُ أن تصبحَ هذه الطبقة ذاتها في الوقت الراهن ممثل الأمة بأسرها. من تلك اللحظة، فإن هذه الطبقة ومعها أغلبية الأمة، تجدُ نفسَها في تناقضٍ مع الوضع القائم ويتوافق الوضع السياسي القائم مع حالةٍ كفت عن الوجود: لتنازع مصالح الطبقات المختلفة. تجدُ المصالحُ الجديدةُ نفسَها محظورة، حتى جزء من الطبقات التي تأسس الوضع القائم لصالحها لم يعد يرى مصالحه الخاصة ممثلة فيه. إن إزالة الوضع القائم، سلما أو عنفا، هو النتيجة الضرورية، وتحل مكانه هيمنة الطبقة التي تمثل في الوقت الراهن غالبية الأمة، والتي يبدأ في ظل حكمها تطور جديد.
حيث إن الافتقارَ إلى رأسِ المال هو أسُ الوضع القائم، والضعف العام، فان امتلاك رأس المال، وتركزه في يد طبقة واحدة، يمكن لهما وحدهما أن يعطيا هذه الطبقة القوة لأن تخلفَ هذا الوضع القائم.
هل توجد الآن هذه الطبقة التي يمكنُ لها أن تطيحَ بالوضع القائم في ألمانيا؟ إنها توجد بالرغم من انها مقارنةً بالطبقاتِ المماثلةِ في انجلترا وفرنسا، ربما بطريقةٍ برجوازيةٍ صغيرة جدا، لكنها لاتزال موجودة وبالفعل في البرجوازية»، كراسٌ حول المسألة الدستورية في ألمانيا، الحوار المتمدن، ترجمة سعيد العليمي.
بعد أن يقارن أنجلز وضعي انجلترا وفرنسا وتطوريهما الرأسماليين الكبيرين يحللُ وضعَ الطبقات ونموها في ألمانيا خلال عدة قرون، وأسبابَ صعودِ البرجوازية وضعفها الاقتصادي السياسي، وكيفية تصعيدها من قبل اليسار ويُنزلُ حمماً فوق رؤوس من يُسمون (الاشراكيين الحقيقيين) وجهلهم بالمسار المركب للتطور الاجتماعي السياسي، وكيف أن تصعيد البرجوازية لا يتعارض مع نقدها والصراع معها ولكنه تصعيد مشترك للنظام الديمقراطي الحديث.
أي فهم مركب عميق يقدمه أنجلز بهذه القراءة الجدلية للتاريخ، بدلاً من التبسيطات والسطحية!
لا شك أن ثمة ظروفا مختلفة لوضع العرب عن وضع ألمانيا في القرن التاسع عشر، لكن التشابهات لا تَخفى على أحد، وربما كان العربُ أكثر تخلفا من ألمان القرن التاسع عشر في جوانب، ومتقدمين في بعض الجوانب وثمة دول ذات رساميل، لكن بُنى الإقطاع المُفكَّك، وضخامة الفقر، وسيطرة الهياكل الاقتصادية البيروقراطية الفاسدة، وانتشار رأسماليات الدول الشمولية وهي المظهر المعوق لتنامي برجوازيات حرة، كل ذلك هو السبب الكبير في هذه العرقلة التاريخية المختلفة عند العرب خاصةً، وهي مميزات مختلفة عن ألمانيا ذات المسار الرأسمالي الخاص الغالب، لكن الوضع العام هو نفسه، ثم لا ننسى مظهرا مشتركا بين الأمتين وهو ضخامة أعداد البرجوازيين الصغار الثرثارين عن الاشتراكية و«العدالة» و«الثورة»