الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


قراءة في الدورة الـ23 للمؤتمر القومي العربي في تونس..«ميزان الأمة»

تاريخ النشر : السبت ١٦ يوليو ٢٠١٢



الدورة الثالثة والعشرون للمؤتمر القومي العربي التي انعقدت في تونس أيام 4و5و6 يونيو ان هذا المؤتمر، وبعد نحو ربع قرن على تأسيسه، قد نجح إلى حد كبير في ان يكون «ميزان الأمة» كما قال الأمين العام السابق للمؤتمر الأخ معن بشور، اي ان يكون الإطار القادر على تجسيد العلاقة الجدلية بين الطموح والواقع، بين القومي والقطري، بين الثابت من المبادئ والمتحول من المتغيرات، بين الأهداف الستة للمشروع «النهضوي» للأمة (الوحدة، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، التجدد الحضاري) من دون مقايضة بينها، او من دون تنازل احدها لحساب الآخر، بل جدلية العلاقة بين تيارات الأمة الرئيسية الكبيرة (القومي، الإسلامي، اليساري، الديمقراطي الوطني) من دون طغيان لتيار على آخر، او إقصاء تيار لحساب الآخر.
وتزداد أهمية نجاح المؤتمر في ان يكون فعلا «ميزان الأمة»، وانه انعقد وسط زلازل عنيفة تحيط بواقعنا العربي، فتدفع ارتجاجاتها البعض إلى مهاوي الغلو والتطرف، فيما تدفع البعض الآخر إلى منزلقات المساومة على المبادئ والثوابت، فننظر إلى ما تمر به الأمة بعينين لا بعين واحدة، ونسمع بأذنين لا بأذن واحدة وذلك لكي نسهم في رسم حلول لأزماتنا بدلا من ان نتحول إلى مشكلات جديدة تزيدها تعقيدا.
ففي مواجهة الأزمة السورية مثلا دعا المؤتمر إلى الحوار الوطني السوري الشامل، وإلى وقف العنف أيا كانت مصادره، وإلى تحقيق المطالب الشعبية المشروعة للشعب السوري رافضا كل أشكال التدخل الخارجي، والعقوبات الاقتصادية، وتسليح المتشددين، وتعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، منددا بأسلوب قطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق وسحب السفراء منها لأن هذه العلاقات هي بين شعوب ودول وليست بين حكام هم بالنهاية عابرون مهما طال بهم الزمن.
وحول العراق كان تمسّك برفض الاحتلال وإفرازاته والدعوة إلى انتخابات جديدة ودستور جديد لتحقيق رغبات الشعب العراقي وطموحاته، اما في مصر فمع اعتزاز المؤتمر بملايين الأصوات التي نالها عضواه حمدين صباحي وعبدالمنعم ابوالفتوح، واعتزازه بعودة التيار العروبي الناصري مع صباحي إلى قلب المعادلة السياسية، فقد دعا المؤتمر إلى الحفاظ على الثورة ومكتسباتها، منبهاً إلى اي تفريط فيها، كما دعا إلى وحدة قوى ثورة 25 يناير المجيدة.
في الجزيرة العربية كان الموقف ايضا واضحا حين دعم المؤتمر الحراك الإصلاحي الممتد من شرق الجزيرة إلى غربها.
اما فلسطين، فبقيت البوصلة الموجهة للمؤتمر، والمعيار للحكم على سلامة اي تغيير، «فالشعب يريد تحرير فلسطين» لم يكن نصا في بيان المؤتمر فحسب، بل هتافا ردده متظاهرون أمام قاعة حقوق الإنسان التي افتتح بها المؤتمر اعماله، كما كان قولا صريحا أعلنه زعيم حركة النهضة، عضو المؤتمر، الشيخ راشد الغنوشي في جلسة الافتتاح ان تحرير فلسطين هو مطلب يجمع عليه التونسيون.
البعد العالمي للقضية العربية مثله حضور النائب البريطاني جورج جالاواي بكلمة في جلسة افتتاح المؤتمر لاقت تصفيقا حادا عدة مرات، كما مثله حضور عدد من رواد أسطول الحرية منهم زميلان لي في تلك الرحلة التاريخية هما رجل الأعمال الجزائري كريم رزقي، ونائب الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب د. إدريس ربوح، وأركان المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن صاحب المبادرة في المنتديات الدولية التي سيتوجها في الخريف القادم منتدى دوربان (جنوب إفريقيا) لمناهضة الابارتهايد الصهيوني.
لم يغرق المؤتمر في اللحظة السياسية الراهنة فقط، بل امضى أعضاؤه ساعات في مناقشات فكرية واستراتيجية حول «حال الأمة»، وهو تقرير سنوي يصدره مركز دراسات الوحدة العربية، وحول «سبل استنهاض التيار القومي العربي» في مناقشة لورقة قدمها أ. معن بشور.
كما ناقش المؤتمر في عدة جلسات عناصر المشروع «النهضوي» الستة في ضوء أوراق قدمها أعضاء الأمانة العامة للمؤتمر: الاخوة عبدالملك المخلافي (الذي انتخب أمينا عاما للمؤتمر)، والدكتور يوسف مكي (الجزيرة العربية)، محمد حسب الرسول (السودان)، عبدالاله المنصوري (المغرب)، د. زياد الحافظ (لبنان)، الذي دعا في ورقته المميزة إلى قيام منظومة معرفية عربية، وهو امر قد يكون شاغل المفكرين والمثقفين العرب في المرحلة القادمة.
من اللحظات المميزة في المؤتمر كانت جلسة التبرعات المالية التي يشترك فيها أعضاء المؤتمر، والتي إدارتها بكفاءة مساعد الأمين العام الأخت رحاب مكحل، فأسهم أعضاء المؤتمر كل حسب قدرته، بالتبرع لايفاء ديون المؤتمر وللمساهمة في كلف الدورة، علما ان غالبية المشاركين يتحملون نفقات سفرهم وإقامتهم.
كذلك كانت من الجلسات الفارقة واللافتة جلسة مناقشة البيان الختامي الذي أعدته بتوازن وبراعة لجنة الصياغة برئاسة الأمين العام السابق المناضل الكبير خالد السفياني، حيث برز التنوع في الآراء، والتعدد في الرؤى، والتباين في المواقف، وخصوصا في المسألة السورية، فكانت مداخلة واقتراحات الأمين العام الأسبق للمؤتمر القومي العربي د.خيرالدين حسيب التي أسهمت في حل إشكالات كانت تأمل إحدى الفضائيات العربية ان تتحول إلى «اشتباكات» حيث بثت خبرا بوقوعها ولم يكن ينقص الخبر سوى «شاهد عيان».
وعلى طريق تكريس تقليد تميز به المؤتمر وهو تقليد تداول المسؤولية أصر الأمين العام السابق المناضل الليبي الصادق عبدالقادر غوقة على رفض ترشيح نفسه إلى ولاية ثانية مختطا طريقا سلكه امناء عامون سابقون وهم خيرالدين حسيب (العراق)، الراحل عبدالحميد مهري (الجزائر)، الراحل ضياءالدين داود (مصر)، معن بشور (لبنان)، خالد السفياني (المغرب)، بعد ان قدّر المؤتمرون لغوقة قيادته الحكيمة للمؤتمر وسط عواصف داخلية مرت به، وزلازل سياسية ودموية تمر بها المنطقة.
وجاء انتخاب عضو مجلس الشورى اليمني عبدالملك المخلافي، وهو واحد ممن حضروا المؤتمر الاول (عام 1990) وبقي عضوا في امانته العامة لدورات عدة، ليمثل انتقال راية امانة المؤتمر من بلد إلى آخر، ومن اقليم عربي إلى آخر، وليؤكد ان المؤتمر، كهيئة شعبية عربية، يرفض تهميش دور اليمن كما هي العادة في النظام الرسمي العربي.
واكد فوز المخلافي بالتزكية، بعد اعتذار معلل وراق من الدكتور زياد الحافظ، إلى روح الوحدة العميقة المسيطرة على مؤتمر بقي صامدا 23 سنة من دون توقف او انقطاع، رغم كل ما مر بالأمة من تحولات وحروب وكوارث، وبقي امينا على ثوابته رغم كل ما تعرض له من تهجمات واتهامات، وبقي مبادرا في غير اتجاه رغم حالة الحصار الهائل التي فرضت عليه بسبب طابعه القومي العربي الجامع والمزعج لكل قوى التفتيت في المنطقة التي لا تطيق سماع كلمة «عروبة» بعد ان ظنت انها أجهزت على رموزها ولاسيما بعد رحيل القائد الخالد جمال عبدالناصر.
وهكذا فقد جاء توقيت انعقاد المؤتمر في ذكرى حروب عدوانية صهيونية على مصر وسوريا والأردن عام 1967، وعلى لبنان عام 1982، ردا على تلك الحروب وسعيا إلى إزالة اثارها، وتأكيدا لتمسك الأمة بوحدتها ومقاومتها وبفلسطين التي لا تحررها سوى الوحدة بإطارها الجامع، والمقاومة بنهجها القاطع.
* عضو الأمانة العامة
للمؤتمر القومي العربي