قضايا و آراء
هذه الأمة لم تمت.. ولن تموت
تاريخ النشر : الأحد ١٧ يونيو ٢٠١٢
يسرف بعض المسلمين على أنفسهم حين يبلغ بهم اليأس من صلاح أمر المسلمين، فيقولون: إن الأمة الإسلامية قد ماتت، وقبرت.
وحين أسمعهم يقولون مثل هذا الكلام أشعر بالرثاء لهم ولأحوالهم التي وصلوا إليها، وأرى أنهم كادوا أن يبلغوا حالة القنوط من رحمة الله تعالى التي حذر منها سبحانه، فقال عز وجل: « قل لعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» الزمر/.53
وقال سبحانه: «... إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» (يوسف/87).
إذًا، فاليأس والقنوط ليسا من صفات الأمة الإسلامية، هي قد تمرض، وقد تدخل غرفة العناية القصوى المركزة كما يحدث لغيرها من الأمم، ولكنها لا تموت لأنها صاحبة رسالة، وأنها أُخرجت وحدها للناس رغم أنها منهم، وذلك لأن لها مهمة لابد من الوفاء بها، ولا يصح، بل لا يجوز أن تموت هذه الأمة قبل أن يبلغ الكتاب أجله، وقبل أن تحقق الغاية التي من أجلها أُخرجت للناس.
ومعلوم أن الغاية التي خلقت من أجلها الأمة الإسلامية، واُستلت من بين الأمم غاية نبيلة، وهي تتلخص في غايتين، الأولى:البلاغ للناس بآخر شرائع الحق إلى الخلق، والثانية: الشهادة على الأمم بأن أنبياء الله تعالى ورسله الكرام قد بلغوهم بما جاءوا من أجله.
قال سبحانه عن الأولى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون» (آل عمران/110).
وقال جل جلاله عن الثانية: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...» (البقرة/ 143).
وأمة هذا شأنها، وتلك هي مكانتها ومهمتها كيف يصح في منطق العقل قبل منطق الدين أن تموت، وأن تُقبر، ويهال عليها التراب قبل أن تنتهي من مهمتها التي من أجلها خلقت؟ وكيف نفسر قوله تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون(32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(33)» (التوبة).
لقد أخذ الحق تبارك وتعالى العهد المغلظ على ذاته العلية أن يتم نوره، وأن يظهر دينه على جميع الأديان والشرائع، فكيف تموت الأمة التي أُوكلت إليها هذه المهمة الجليلة؟
وكيف تُقبر هذه الأمة قبل أن يتم نور الله تعالى في الآفاق كما وعد سبحانه ونحن نعلم أن وعد الله تعالى حق، وأن وعيده حق؟
وهل يصح في منطق العقل، وفي منطق الدين، أن تموت الأمة وتفنى قبل أن يظهر الله تعالى الإسلام على الدين كله، وتعلو قيمه، ومبادئه، وأحكامه على القيم والمبادئ والأحكام كافة؟
إذًا، فلابد أن تبقى هذه الأمة، ولابد لها من العودة إلى ما كانت عليه من قوة، ومن منعة، ومن تميز على باقي الأمم، لأنها وببساطة شديدة تملك أسباب كل ذلك، كما انها تملك مقومات النجاح والتميز، بل التفوق، لا نقول هذا من باب التمني، بل نقولها ولدينا رصيد تاريخي وحضاري كانت الأمة الإسلامية بهما الأمة الوحيدة في العالم التي انتصرت عسكريا وحضاريا على أكبر إمبراطوريات ذلك العصر، وهما: الامبراطورية الفارسية، والإمبراطورية البيزنطية أو الرومانية.
ولقد بلغت الدولة الإسلامية في ذلك العصر أوج مجدها، وقمة عظمتها في ظل شريعة الإسلام، وتنامى نفوذها في أرجاء المعمورة، وقدمت للبشرية أُنموذجا رائعا للدولة الصالحة، وللحكم الرشيد، حتى قال أحد الخلفاء الصالحين للسحابة: أمطري حيث شئت، فإن خراجك سوف يأتيني، كناية عن اتساع الدولة الإسلامية في عصره، وكان يسمى ذلك العصر بالعصر الذهبي للدولة الإسلامية.
ولو كانت الأمة الإسلامية أمة قابلة للموت أو الفناء كما يزعم الزاعمون قبل أن يبلغ الكتاب أجله، وقبل وفائها بما خلقت من أجله لقُضِيَ عليها منذ زمن بعيد، لأن ما تواجهه اليوم أقل بكثير مما واجهته بالأمس البعيد من غزوات وحروب طاحنة أهلكت الحرث والنسل مثل حروب التتار والمغول والصليبيين التي بدأ بعضها مع بزوغ فجر الإسلام ببعثة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بدأها الكفار في مكة، ثم اليهود في المدينة، ثم تبعهما الفرس والروم، وكان قدر هذه الأُمة أن تكون في صراع دائم، وفي مواجهات مستمرة مع قوى الشر والطغيان، وكانت تضعف فتُهزَم، وتقوى فتَهزِم، هكذا كان السجال بين أمة الإسلام الممثلة للحق، والأمم الأخرى الممثلة للباطل.
والذين بلغ بهم اليأس مبلغه يرجعون سبب موت الأمة الإسلامية إلى اعتمادها على غيرها، فهي تأكل مما يزرع غيرها، وتلبس مما ينسج غيرها، وهي تتقوى وتتسلح بما يصنعه غيرها، ويوم أن يوقف هذا الغير تصدير ما ينتج من طعام وأثواب وأسلحة تهلك هذه الأمة وتذهب ريحها، وينتهي أمرها إلى الفناء.
نقول لهؤلاء: إن الأمة الإسلامية قد تبدو ضعيفة في نظركم بناء على المقدمات التي ترونها، ولكن هل من المعقول أن يجتمع العالم كله ويتداعى على حرب أمة بهذا الضعف؟
وهل من المعقول أن تظل هذه الحروب للأمة الإسلامية مستمرة منذ بعثة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وإلى اليوم؟
كيف يقبل العقل الواعي مثل هذا الكلام؟
وكيف يروج العقلاء العالمون بأسباب ضعف الأمم وقوتها لهذه المزاعم، وهذه الأكاذيب التي يريدون من ورائها زعزعة ثقة المسلمين بصدق موعود الله تعالى لهم بالنصر على أعدائهم، وأنه سبحانه سوف يظهر دينه، ويتم نوره، ولو اجتمعت البشرية على أفجر رجل فيهم؟ لأن المواجهة ليست مع المسلمين في حقيقتها، بل مع الحق تبارك وتعالى الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه لابد أن ينصر عباده المؤمنين، فلقد نصرهم في بدر وهم أذلة، وهو سبحانه قادر على أن ينصرهم في جميع مواجهاتهم مع أعدائهم إذا صدقوا الله تعالى القول والعمل.
إن الأمة الإسلامية التي بقيت طوال هذه الأزمنة المتعاقبة صامدة أمام أعدائها الذين ينسلون من كل حدب وصوب لدليل قاطع، وبرهان ساطع، على أنها أمة قوية، صامدة تتأبى على الموت والفناء قبل أداء مهمتها التي أخرجت من أجلها.
والغرب رغم كل ما حقق من تقدم وحضارة وتكنولوجيا، وتفوق في ابتكار أسلحة الدمار الشامل، وبالسيطرة على الفضاء من خلال التقدم الهائل في وسائل الاتصال.
والشرق رغم ما وصل إليه من قوة ومن بروز في مجالات الحياة كافة ، كل هؤلاء جميعا ليس لهم عدو إلا الإسلام، وأمة الإسلام.
حروبهم للمسلمين لا تهدأ، ومؤامراتهم لا تتوقف، وخططهم يعاد النظر فيها في كل عصر لتوائم ما يطرأ على أمة الإسلام من تغير وتبدل.
كيف تكون أمة مشرفة على الهلاك كما يدّعون وهي تواجه كل هؤلاء الأعداء، وتواجه كل أسلحة الدمار التي يمتلكونها، ثم تبقى الممثلة الوحيدة للحق الذي جاء به الإسلام؟
بل هناك ما هو أكثر من ذلك وهو: كيف استطاعت الأمة الإسلامية أن تبقى وتصارع كل هؤلاء الأعداء وهي تواجه حربا داخلية يحمل لواءها بعض حكامها الذين أعطوا ولاءهم للغرب أو الشرق مقابل بقائهم في الحكم رغم إرادة شعوبهم؟
إن أمر هذه الأمة لجد عجيب، وإن صمودها واستعصاءها على الزوال لأمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب، ولكن حين ندرك حجم المسؤولية التي أُنيطت بها من دون باقي الأمم نعرف السر الخفي وراء هذا التميز، والاستعصاء، والتأبي.
نعم ما تواجهه الأمة الإسلامية من سيطرة بعض الطغاة من حكامها على مقاليد أمورها يضيف عدوا جديدا إلى قائمة أعدائها، ورغم كل ذلك بقيت الأمة الإسلامية ملء السمع والبصر والوجدان، وبقي المسلمون أحياء في ضمائرهم، وفي عقيدتهم، وفي مشاعرهم، وإذا تعرضوا لخطر داهم هبوا كرجل واحد يواجهون الأخطار، ويردون كيد الأعداء ومؤامراتهم عن بلادهم.
صحيح أن الغرب استطاع أن يطوع بعض الحكام المسلمين له، ولكنه عجز عن تطويع الشعوب الإسلامية له، ذلك لأن مرجعية أولئك الحكام مصالحهم الخاصة.
اما مرجعية الشعوب الإسلامية، فهي كتاب ربهم سبحانه وتعالى وسنة نبيهم (صلى الله عليه وسلم).
وكلمة أخيرة نوجهها إلى هؤلاء اليائسين القانطين من رحمة الله تعالى ونصره: إن الأمة الإسلامية باقية ما بقيت المهمة التي أخرجت من أجلها، وهي حية لم تمت.. ولن تموت حتى يتم الله تعالى نوره ويظهر دينه على الدين كله، وصدق مولانا سبحانه وتعالى: « إن ينصركم الله فلا غالب لكم...» آل عمران/.160
وصدق الله العظيم: «... وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم» (آل عمران/126).