في الصميم
لم يفقده جهاز الأمن وحده!
تاريخ النشر : الاثنين ١٨ يونيو ٢٠١٢
لطفي نصر
كالعادة في صباح كل يوم صعدت «الطباخة» إلى غرفته لتسأله: ما هو السندويتش الذي تريده اليوم.. فقد كان افطاره طوال حياته، «ساندويتس» وتفاحة مع الشاي بالحليب، حيث لا يتغير أي شيء يوميا فيما عدا ما بداخل «السندويتش».. فقال لها: أنا اليوم أشعر بسعادة غامرة لم أشعر مثلها في حياتي.. لذا - وازاء هذه الفرحة - أريد منك بدل «الساندويتش» الواحد «ساندويتشين».. فردت عليه قائلة: حالا..
نزلت «الطباخة» إلى المطبخ وعادت إليه بعد دقائق حاملة «الساندويتشين» والتفاحة والشاي.. فوجدته جالسا على الكرسي مائل الرأس.. فظنت انه نائم.. فنادت عليه وكررت النداء مرات.. وعندما لم يجب نادت على والده الذي جاء مسرعا.. واستدعى الطبيب.. الذي أبلغه أسوأ خبر سمعه في حياته، لم يكن يتوقع أن يسمعه أبدا! انها سكتة قلبية!
منذ تلك اللحظة والصديق العزيز الدكتور محمد صالح يعيش أسوأ صدمة داهمته في حياته.. يعيش حالة شرود دائم.. وعندما ذهبت إلى بيته مع الأستاذ أنور عبدالرحمن رئيس التحرير والأستاذ عبدالمجيد علي مدير الإعلانات لتقديم واجب العزاء.. ناشدته الصبر وقوة الإيمان بالله.. فرد عليّ قائلا: لا تخف أنا أتوجه إلى الله في كل لحظة وكل حين أسأله عز وجل ألاّ يري أبًا أو أما ما رأيت وما أرى..
كان نجله الأكبر النقيب ياسر محمد صالح بمكتب وزير الداخلية ضوءا مبهجا ينير حياة أهله كلها.. فانطفأ هذا النور فجأة من دون أية مقدمات.. لم يشك مرضا.. سهر وسط أسرته عشية وفاته.. ثم نام ليتوجه الى مكتبه في الصباح كالعادة.
كان ياسر سعيدا بخبر قد تلقاه قبيل الوفاة بيوم واحد، وهو أن هيئة الإشراف على رسالته للدكتوراه في كلية حقوق القاهرة في القانون الجنائي حول قضايا التحريض قد حددت موعدا لمناقشة رسالته يوم (14 اكتوبر القادم)!
تخرج النقيب ياسر في أكاديمية الشرطة بالقاهرة حيث حصل على الليسانس في العلوم الشرطية والقانون.. ورغم انه قد انخرط في عمله كضابط شرطة، فإنه كان مولعا بالقراءة والثقافة والرغبة النهمة في التعمق في العلوم القانونية والشرطية.. فكانت أول درجة ماجستير حصل عليها في «جرائم النشر»، وذلك من كلية حقوق القاهرة.. ونظرا إلى سعة اطلاعه وجد في نفسه ميلا نحو التأليف في مجال اهتماماته، فصدر له كتابان أحدهما بعنوان: «الإعلام الأمني المعاصر».. وهذا هو ما جعل الخيار يقع عليه للعمل في الإدارة العامة للإعلام الأمني بعدما نقل من إدارة التحقيقات الجنائية.. ثم استقر به المطاف حتى الوفاة عضوا في مكتب وزير الداخلية.
وإضافة إلى عمله ومهمته الرئيسية فقد أختير النقيب ياسر صالح ليحاضر في أكاديمية الشرطة بالبحرين.
أحب ياسر البحرين بملء كيانه ومشاعره حيث جاء إليها وعمره شهران فقط.. كما ربته «أمه» السيدة بروين كازروني على الوطنية وعشق البحرين والاخلاص لها، والتي كانت صدمتها في فقده أشد عنفا من صدمة والده.
كان ياسر هادئ الطبع.. دمث الخلق.. لا يتحدث كثيرا.. عرفته أكثر من خلال جلسات مجلس النواب التي كان يأتي إليها ممثلا للإعلام الأمني.. أسأله: لماذا أنت صامت على الدوام.. فيرد قائلا: إذا لم أصمت فلن أسمع ولن أفهم ولن أستوعب شيئا.. وهنا يكون الأفضل لي ألا أحضر!
عادة.. أعرف عن العسكريين أن المثقفين منهم وهواة القراءة والتبحر في العلم لا يميلون كثيرا إلى العسكرية الحادة.. لذا تلمس فيهم أن صفة التواضع هي الغالبة.. وهكذا.. كان النقيب ياسر محمد صالح.. لذا كان حزن زملائه عليه من الضباط وأفراد الشرطة لا يقل عن حزن والديه وأهله عليه.. وقد سمعت أن كل من يعرفه من أفراد الشرطة كان بكاؤهم على فقده أشد.
ومما أشعل الحزن بدرجة أكبر في نفوس أهله ومعارفه على فراقه أنه على الرغم من أن عمره قبل وفاته كان في بداية الثلاثينات.. فإنه متزوج وله ولد وبنت.. كما أنه لن يرى ابنه الثالث.. لأنه لا يزال في بطن أمه!
رحم الله النقيب ياسر محمد صالح وأفسح له في جناته بمقدار حبه لوطنه البحرين.. وبمقدار حجم تطلعاته.. فقد كان قراره السير في طريق العلم الى ما لا نهاية، فهو الطريق الذي كان قد اختاره لخدمة الوطن.. وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.. وملأ قلوبهم بالقوة وشدة الإيمان.