الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٦ - الثلاثاء ١٩ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ٢٩ رجب ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

مختارات

من رجال ومواقف عند الشدائد التبرع السخي عند الشدائد





يقول بعض من الرواة الصادقين والمعروفين في البلد انه حدث من خلال السنين الطويلة الماضية من تاريخ البحرين وفي مناسبة من المناسبات الجليلة والمهمة أن دعي إلى تجمع عدد من التجار وكبار «طواويش» اللؤلؤ في مجلس كبير القوم، حيث عرض على الحضور ذلك الكبير الجليل مد يد المساعدة بالمال أو ما تجود به أنفسهم كل على قدر استطاعته وتمكنه، وذلك في مشروع إنساني أخوي كبير. وما هي إلا دقائق حتى انهالت المساهمات المالية من الجميع، إلا من شخص معروف ينتمي إلى عائلة كبيرة مشهورة، فقد تجاوز التوقعات وقدم مبلغا سخيا كبيرا قُـدر بعشرة آلاف روبية، الذي يعتبر في ذلك الوقت مبلغا خياليا في نظر الجميع والذي يعادل اليوم عشرات الآلاف من الدنانير، وهناك من يقول إن تبرعه هذا فاق عشرات آلاف الروبيات وأكثر. وأمام دهشة واستغراب الحضور سأله كبير القوم هل أبقيت شيئا لعائلتك وأهلك؟

فأجابه: نعم بل أكثر من ذلك.

تلك واحدة من مواقف الرجال عند اشد الضرورات والحاجة.

صاحب الأيادي البيضاء

اشتهر في سالف عصره وزمانه بالثراء والمكانة العالية والسمعة الطيبة، كانت أياديه الانسانية لم تنقطع قط في يوم من الايام بل كانت ممتدة إلى العشرات من البيوت والأفراد الفقراء والمساكين، لقد فتح خزائنه وعماراته لتوزيع ما تجود به نفسه من مال ومواد غذائية مثل الرز والتمر والطحين، كانت أعماله الخيرية والانسانية تجري بانسياب في مجرى أعماله الانسانية لتصب -في الآخر- في البيوت والافراد الفقراء. لقد برز ذلك العطاء وازداد في أحلك الظروف ضراوة وأقسى الأيام فقرا، وذلك خلال تلك السنين الماضية العصيبة التي مرت على البحرين. كان الناس فيها يتزاحمون أمام عماراته ومتاجره طالبين العون منه لسد رمق الجوعى الذين لازمهم الجوع سنين عديدة وهم يعيشون في شظف من العيش بؤسا وألما، ومع ذلك وأمام تلك الظروف الصعبة لم يبخل عن اي انسان التجأ اليه طالبا مساعدته، كان بالفعل نصيرا للفقراء والمحتاجين، لذلك فان الله عز وجل زاده من خيره وبارك له في أمواله وفي معيشته، كان يكره أي شخص يأتيه في مجلسه وأمام حشد كبير من زواره أو ضيوفه ثم يطلب مساعدة او سلفة أمام الملأ، اذا تأكد من صدق الرجل والظروف التي يمر بها ذهب اليه بنفسه في بيته وفي جنح الظلام وطرق بابه ثم أعطاه ما طلبه في مجلسه (ولا من شاف ولا من سمع) سوى الله عز وجل الشاهد على أفعاله «هذا ما حصل بالنسبة إلى خادمه» وهي واحدة من القصص الكثيرة التي كانت تتردد على ألسنة الناس عن هذا المحسن الكبير، هكذا كان السلف الصالح عند الشدائد، فلا تلفزيون ولا راديو ولا جريدة تنشر له صورته أو اسمه، وكان الذي يتصدق به من ماله، هو من مال الله الذي أعطاه إياه وأكرمه به.

عزة النفس حتى عند ضيق اليد

عاش في فريق البنعلي من مدينة المحرق، عيشة بسيطة مثل عيشة السواد الأكبر من العائلات الفقيرة المعدومة، كان يصرف على نفسه وعائلته على قدر امكانياته المتواضعة، كان بيته عبارة عن «كبر» كبير الحجم وآخر أصغر منه أما شكل هذا «الكبر» فهو شبه حجرة، الجدران من طين أو جص بينما السقف مغطى (بالسميم) مصنوعة من سعف النخل و(شوية دنجل وكطيع) صغير ومطبخ في زاوية من البيت هذا كل شكل مسكنه إلا انه عاش مستور الحال، لم يطلب قط الناس الحافا بل كان يظهر أمام (ربعه) دائما يملك كل شيء وخصوصا إذا علمنا ان أمثاله في ذلك الزمن كثيرون في مثل هذه المعيشة، وبمرور الايام اصبح مسكنه هذا عرضة للسقوط في اي وقت وخصوصا خلال موسم الشتاء حيث الأمطار الكثيرة والغزيرة التي كانت تهطل على البحرين في سنين الأربعينيات ومع ذلك لم يمد يده إلى أي انسان لمساعدته في تصليح مسكنه، كانت عزة النفس وكرامتها فوق كل اعتبار، لكن (ربعه) وجماعته آلمهم ما يعانيه صاحبهم في ذلك البيت المزري، لذلك وفي غفلة منه أجمعوا على القيام بما تمليه عليهم ضمائرهم وواجب (الربعة) حتى اذا ما بزغ فجر ذلك اليوم من أيام (الكفال) (انتهاء موسم الغوص) هبوا في فزعة كبيرة لتصليح بيته بعد أن أقنعوه بمشروعهم هذا وبعد أن استأجروا له مسكنا صغيرا متواضعا وذلك بصورة مؤقتة ثم بدأوا العمل ووفروا مستلزمات مواد البناء، منهم من وفر مجموعة من الدنجل والآخر بضعة أكياس من الجص وهكذا سارت عملية البناء حتى اذا ما تكامل البيت وأصبح جاهزا للسكن أتوا بصاحبهم وما أن شاهد بيته حتى انهالت دموعه من عينيه، لم يكتفوا بذلك بل قدموا له بعض المال الذي جمعوه من أهل (الفريج)، وهم الذين في أشد الحاجة إلى المال لكنها المحبة والتعاضد والتعاون بين الناس، والتي تجمعهم حتى في أحلك الظروف. هذه واحدة من عشرات القصص الواقعية التي كانت تحدث على مدار السنة وهي سائدة بين الناس في ذلك الزمن الجميل.

تعليق:

يكولون انكم دائما تتحدثون وتتذكرون تلك الأيام الماضية اشلون ما نتذكرها ونتذكر عاداتهم وأساليبهم في الحياة، عيل نتذكر هذه الأيام اللي اليار ما يعرف ياره والمحاكم مليانه بقضايا أفراد العائلات وسببها الفلوس آكول اليوم الفلوس موجودة لكن راحة البال انتهت الكل يلهث في زيادة رصيده لكن طعمها غير طعم ذلك الزمن على الرغم من وجود الرفاهية والمعيشة الراقية في زماننا هذا.. لكنه الانسان الذي غيرته المادة وأصبح أسيرها.

تلك العواصف الشديدة التي وصفت بالاعصار والتي ضربت البحرين بعد منتصف الخمسينيات وموقف من مواقف الرجال.

حكى لي صديق واحدة من قصص الرجال عند الضيق والشدة، يقول إن أهله كانوا في (كشته) قرب ساحل البديع وكان يوما هادئا مع تلبد السماء بقليل من الغيوم الا انه فجأة هبت رياح قوية شديدة السرعة اقتلعت معها الأشجار الكبيرة والصغيرة بينما انقلب ذلك البحر الهادئ إلى ما يشبه الهيجان وبعد لحظات ازداد كثيرا، وما هي الا دقائق حتى امتلأ ذلك الساحل الجميل بقطع من الأخشاب، بعضها من سفن تناثرت اشلاؤها بجانب ذلك تغطى الساحل بأعداد كبيرة من مختلف المعلبات الغذائية وغيرها مثل (تنكات) الدهن والحليب وأكياس الآلو التي جرفتها تلك الأمواج العاتية وغطت بها ساحل البديع شرقا وغربا. ويقال إن بعض السفن قد حطمتها أمواج البحر الهائج بينما كانت تسير في وسط البحر، يقول صاحبنا انه عندما حدثت تلك العواصف ثم بعدها هطول بعض الامطار بدأ الخوف يساوره والقلق يدخل إلى أعماق قلبه، وخصوصا انه لا يملك في ذلك الوقت حتى (سيكل) عندئذ ذهب مسرعا إلى عدد من اصحاب البستات (باص) الا انهم وأمام ذلك الجو العاصف اعتذروا ولم ييأس فاتجه إلى بعض اصحاب سيارات التاكسي (صالون) لكن حتى هؤلاء لم يفلح معهم لأن الكل كان خائفا من مخاطرة الطريق، هنا تذكر صاحبنا (خليفة) احد السواق المخلصين الذين كانوا يعملون معه والذي دائما ما يحتفظ بباص الدائرة امام بيته لنقل الموظفين الذين يعملون (شفت)، حكى له قصته وكيف أن أهله ينتظرونه وهم في مأزق وخوف وولوال الخ، وما هي الا دقائق حتى ذهبوا معا إلى ساحل البديع ولم يجد صاحبنا أهله ومعهم جيرانهم الا قرب المسجد ملتمين بعضهم مع بعض وكأنهم عصافير امبللة من المطر، رجعوا إلى البيت سالمين بفضل جسارة وشهامة ذلك السائق وعندما مد له يده وفيها شيء من المال رفض ذلك الرجل إن يأخذ منه حتى بيزة.

رجل من خيرة الرجال

لقد اشتهر في سيرته الطويلة التي تنقل فيها من موقع إلى آخر وهو في خدمة حكومته ووطنه اشتهر برجل المواقف، كنت تجده حاضرا في اصعب وأشد المهمات التي توكل اليه او تلك التي تحتم ظروف العمل القيام بتأديتها على اكمل الوجوه من دون تردد او ضجر او ملل بل تجده دائما مبتسم الوجه منشرح الصدر، رجل تميّز بخصائص قلما تجدها اليوم ومنها الاخلاص والوفاء والصدق ةالأمانة سواء في محيط عمله أو بين أهله وأصدقائه، وأنا هنا لست في صدد تعدد مواقفه المشرفة وخصوصا طيلة الأيام التي قضاها يؤدي واجباته الوظيفية في السلك الدبلوماسي بل سأذكر له موقفا يعتبر من اصعب المواقف بل وأخطرها على حياة الانسان موقف يفوق الوصف والخيال مما جعل الكثير من الناس يشيدون بجسارته ورجولته وشجاعته التي فاقت كل التصور، تعالوا نسمع عندما تعرضت دولة الكويت الشقيقة لذلك العدوان الغاشم عام ١٩٩٠ والذي على اثره انسحبت فيه من دولة الكويت عدد من السفارات والقنصليات وبعض المؤسسات الأخرى التجارية، إلا هو ، فقد أبى وأصر بشدة إن لا يغلق ابواب سفارة بلاده وخصوصا بعد أن اقنع المسئولين هنا بسلامة موقفه وبقائه، وأمام صواريخ وقنابل العدو والمعارك الشرسة التي كانت تدور على ارض الكويت استمر صامدا في موقعه بل كان يخرج من بيته يؤدي الصلاة في المسجد في كل القروض من دون أن ينتابه الخوف او الرعب من جنود العدو الذين كانوا منتشرين في كل مكان، ليس هذا كل شيء بل كان له دور بطولي آخر لا يقل اهمية عن الأول وهو انه أسهم مساهمات كبيرة فعالة ومؤثرة والتي كانت لا تخلو من المخاطرة والمجازفة، لقد ساعد وسهل على عدد كبير من اخواننا الكويتيين وغيرهم من الجنسيات الاخرى سهل لهم خروجهم من الكويت وذلك بحسب رغبتهم بينما ظل الرجل -كما قلت- باقيا صامدا في سفارته ومنزله وعلى ارض الكويت على الرغم من النداءات المتكررة الصادرة عن المسئولين في وزارته. ظل هذا الرجل الشجاع يزاول عمله حتى انتهاء عملية تحرير الكويت الشقيقة ثم بعدها بدأت مرحلة التكريم والتقدير له وذلك من بعض الدول والمؤسسات وعلى رأسهم أمير بلاده -طيب الله ثراه- لهذا الرجل الذي ضرب أروع وأجل المواقف والأمثال في الاخلاص والتضحية حتى بنفسه.

وكما يقول الشاعر: والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

لقد عرفته منذ زمن مدرسة الهداية -أم المدارس- واستمرت صداقتنا طويلة حتى وافاه الأجل المحتوم وهو يؤدي واجباته نحو وطنه، رحم الله عيسى بن محمد الجامع وأسكنه فسيح جناته ورحم الله صديقه الحميم ابراهيم المنصور وأطال الله في عمر صديقنا وأخينا أحمد بن يوسف المحميد الباقي من ربع وشلة مدرسة الهداية الصامدة التي ما زالت تصارع الزمن وتقلبات السنين انه ذلك الصرح الكبير الذي ضمنا في يوم ما ونحن ننهل من علومه وفنونه. انني أتمنى أن تصل إلى هذه المدرسة يد التغيير والبناء قبل أن تخر جدرانها وتلامس الأرض.

كلمة اخيرة إن هذه القصص والحكايات التي نقلتها لكم من ايام زمان ما هي الا نماذج حقيقية من مواقف كثيرة ومتعددة لأولئك الرجال ومواقفهم عند الشدائد الا انني اخترت هذا الجزء البسيط حتى لا اثقل على القارئ وآخذ من وقته اكثر من اللازم.







































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

الأعداد السابقة