قضايا و آراء
قراءة في المؤتمر القومي العربي في تونس
تاريخ النشر : الأربعاء ٢٠ يونيو ٢٠١٢
عقد المؤتمر القومي العربي مؤتمره السنوي الثالث والعشرين في مدينة حمامات في تونس الخضراء بين 4 و6 يونيه (حزيران). حضر المؤتمر حوالي 200 شخصية عربية من جميع الأقطار يمثلون مختلف التيّارات السياسية في الوطن العربي. وهذه ميزة المؤتمر إذ إنه الملتقى العربي يتحاور فيه المشاركون حول قضايا الأمة سواء كانت قضايا سياسية ساخنة أو قضايا فكرية تصبّ في مكوّنات الثقافة والفكر العربي.
هناك التباس مازال قائما عند العديد من المراقبين وحتى الأعضاء حول ماهية المؤتمر. فهو ليس تنظيما سياسيا أسوة بسائر التنظيمات السياسية القائمة كما أنه ليس بديلا عنها. فالكثيرون من أعضاء المؤتمر ناشطون في أحزاب مختلفة وحضورهم للمؤتمر يكون بصفتهم الشخصية وليست الحزبية أو التنظيمية. وهذا الحضور هدفه التداول في مختلف القضايا حتى في تلك التي تُظهر التباينات بين المشتركين وهذه قوة وقيمة المؤتمر. وقد اتفق الأعضاء المؤسسون للمؤتمر أن يتمّ التركيز على ما يجمع عليه المشاركون وترك القضايا الخلافية إلى وقت يكون المناخ السياسي أكثر استعدادا لمناقشتها. ولكن هناك أيضا ثوابت حرص المؤتمر على تأكيدها ويؤكّدها في كل مؤتمر سنوي وفي كل القضايا التي تستدعي منه موقفا واضحا. وهذا يجعل المؤتمر ميزانا دقيقا لمزاج الأمة يأخذ بعين الاعتبار نواحي القضايا كافة بما لها وبما عليها كما أوضحه الأمين العام السابق وأحد المؤسسين للمؤتمر والوحيد الذي حضر المؤتمرات كافة منذ نشأتها منذ 23 عاما، الأستاذ معن بشور. وسمة التوازن في المواقف الصادرة عن المؤتمر غير مألوفة عند العديد من النخب العربية التي تعوّدت على الخلط بين الثوابت والمواقف الحادة التي تفرّق ولا تجمع.
كون المؤتمر «ميزان» الأمة يستدعي عدّة ملاحظات. الملاحظة الأولى أنه لا يمكن أن يكون ميزانا إلاّ إذا كان المؤتمر مستقلاّ عن الحكومات العربية أو عن أي جهة قائمة. فليست هناك من جهة تستطيع أن تقول إنها «أثّرت» في قرارات المؤتمر عبر السنين. والدليل على ذلك هو الهجوم المتكرّر على المؤتمر من قبل «أخصام» متنافسين في الساحة العربية متّهمين «النظام الخصم» أو «الجهة الأخرى» بالهيمنة عليه. مؤخّرا، كانت التهمة بأن المؤتمر القومي العربي هو مؤتمر قومي «فارسي» سوّقها كل من يناهض جبهة الممانعة المتحالفة مع إيران. بالمقابل، وفي نفس الوقت سوّق الفريق المؤيّد للجبهة الممانعة بأن المؤتمر القومي العربي انعقد في تونس عند «كرزاي العرب»! إذاً، النقيضان التقيا على التحريض على المؤتمر وهذه ظاهرة تكرّرت عبر السنين منذ الحرب على العراق وصولا إلى الأزمة الحالية في سوريا. فلا جديد تحت الشمس في هذا الموضوع والحمد لله!
الملاحظة الثانية هي التأكيد على هوية المؤتمر وتحديد من هو القومي العربي. وربما هنا التباس آخر في عقول العديد من المراقبين والمشاركين في المؤتمر. وصل المؤتمر بعد تفكير معمّق مبني على تجربة العديد من مؤسّسيه إلى قناعة أن القومي العربي هو من يلتزم بالمشروع النهضوي العربي بأبعاده الست: الوحدة، الاستقلال الوطني، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، التجدّد الحضاري. فهذه الأبعاد تشكّل الردّ الاستراتيجي على مكامن الضعف في الأمة وما يهدّدها. فالوحدة هي الردّ على التجزئة، والاستقلال الوطني هو التحرّر من أشكال التبعية القديمة والجديدة كافة وضرورة تحرير الأرض من الاحتلالات ومن القواعد العسكرية الغربية على أرض العرب، التنمية المستقلّة هي الردّ على التخلّف، والعدالة الاجتماعية الردّ على الفجوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية ولإيجاد مجتمع الكفاية والعدل، والديمقراطية هي الردّ على أشكال الاستبداد كافة والتجدّد الحضاري هو الهدف الذي يحافظ على التراث ويستنبط العلوم الحديثة لتحديد منظومة معرفية وخاصة بالأمة.
هذا التعريف للقومية العربية يشكّل محطّة متقدّمة في مسارات العروبة منذ بدايات القرن الماضي. ف «السلالات» القومية العربية من ناصرية وبعثية وحركية قومية لا يمكن أن «تحتكر» العروبة. والمشروع النهضوي العربي يضمّ جميع التيّارات في الوطن العربي من قومية وإسلامية ويسارية وليبرالية ويحظى بإجماع عليه. فممثّلون عن هذه التيارات ساهموا في تحريره. ولذلك كيف يمكننا أن نتصوّر أنه هناك من داخل هذه التيارات من يعارض المشروع النهضوي العربي الحديث. ونشير إلى أن مركز دراسات الوحدة العربية أصدر في ذكرى الوحدة بين مصر وسورية في فبراير( شباط )2010 الكرّاس الذي يحدّد معالم المشروع النهضوي العربي. هذا التعريف للقومي العربي يجعل العروبي حاملا هموم الأمة كافة. فهو يحمل همّ القومي العربي التقليدي، ويحمل همّ الإسلامي، واليساري، والليبرالي. من هنا المقولة إن حلّ أزمات الأمة وصُنع مستقبلها هو عبر العروبة ورسالتها الإنسانية.
الملاحظة الثالثة هو حرص المؤتمر منذ تأسيسه وفي تكوينه على تكريس ما نسمّيه الكتلة التاريخية أي تفاهم التيّار القومي والتيّار الإسلامي. ونعتقد أن المؤتمر القومي العربي وشقيقه المؤتمر القومي الإسلامي ساهما بشكل مباشر وفعّال للتقارب بين التيارين اللذين يواجهان مع سائر التيّارات الأخرى نفس التحدّيات والأخطار المهددّة للأمة كالتجزئة، والتبعية للاستعمار الغربي والاحتلال الصهيوني لفلسطين من البحر حتى النهر، والتخلّف، والفجوات الاقتصادية والاجتماعية، ومحاربة أشكال الاستبداد كافة ، وضرورة التجدّد الحضاري. هناك توافق عميق حول هذه الأهداف وبالتالي التفاهم بين الكتلتين أمر ضروري للنهوض بهذه الأمة. نشير هنا إلى الكلمة المميّزة والهامة التي ألقاها المنسّق العام للمؤتمر القومي الإسلامي الأستاذ منير شفيق في افتتاح المؤتمر القومي العربي في تونس حيث أكد ضرورة إنشاء جبهة عريضة في مصر تضمّ التيّار القومي والتيّار الإسلامي في مواجهة الثورة المضادة. أكثر من ذلك فقد اقترح إنشاء مجلس رئاسي في مصر يتداول في رئاسته المرشح القومي الناصري الأستاذ حمدين صباحي، ومرشح الاخوان المسلمين المهندس محمد مرسي، والمرشح الإخواني سابقا الدكتور عبدالمنعم عبد الفتوح. هذا هو العقل الجامع في التيّار القومي العربي الحقيقي الذي يتجاوز التناقضات الفرعية ويركّز على التناقضات الوجودية مع أعداء الأمة.
لا ننكر أن هناك في كلا التيّارين من يمتعض من هذا التفاهم وذلك من منطلقات مختلفة نعتبرها غير مقنعة ولسنا معنيين بتفنيدها. نحترم الرأي الآخر ونعتقد أن المستقبل سيدعم صحّة مواقفنا. كما لا يجب ولا يمكننا أن نحكم على تيّارات بناء على نيات يتصوّرها البعض وبعيدة عن الواقع أو على تصريحات من هنا وهناك دون الالتفات إلى الظروف المحيطة بها. المهم هو في الأعمال وتقييم أي تيّار هو بمدى التزامه بالثوابت للمؤتمر. ونستغرب مواقف أولئك الذين ينادون بـ«الديمقراطية» ويرفضون احترام نتائج صناديق الاقتراع. فالازدواجية في المعايير غير مقبولة عندنا وإلاّ لما اتهمنا الغرب وأعداء الأمة بها. نحن على قناعة بأن ثقتنا في حسّ الجماهير في تقييم نخبها الحاكمة والمعارضة في محلّها. وخلافا لما يسود في نفوس العديد من «المثقفين» و«النخب» فإن الشعب هو المعلّم والجماهير هي الضمانة. المهم في رأينا اليوم هو التركيز على مواجهة الثورة المضادة التي تحاول في البداية احتواء إنجازات الحراك الشعبي الذي بدأ في تونس والرافض للاستبداد والتبعية والفساد والذي امتدّ إلى معظم الأقطار العربية مما يدّل على وحدة الحال عند الشعب العربي مهما اختلفت الأقطار والحكومات، ومن بعد ذلك الانقضاض عليه.
الملاحظة الرابعة، وهي مستمدّة من الأبعاد الست تتعلّق بمواقف المؤتمر القومي العربي من الأزمات التي تعصف بالأمة. فالمواقف المتكرّرة للمؤتمر تؤكد دائما على ثوابته وتقف دائما إلى جانب الجماهير العربية في نضالها لتحقيق مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص ورفض أشكال التبعية والفساد والاستبداد كافة ، وتحرير الأرض، وتحقيق الوحدة. وأكد المؤتمر القومي أن تقييمه للحراك الشعبي في مختلف الأقطار يستند إلى «البوصلة» أي القضية الفلسطينية. فجاء في البيان الختامي للمؤتمر: «يرى المؤتمر أن شعار «الشعب يريد تحرير فلسطين» الذي اقترن بشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في العديد من الميادين والساحات العربية بات يفرض علينا جميعا الانخراط في مشروع قومي لتحرير فلسطين تشارك فيه القوى الوطنية العربية كافة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني بفصائله كافة على قاعدة خيار المقاومة باعتباره الخيار الاستراتيجي العربي، بدلا مما يسمى خيار السلام، وفرض ثقافة المقاومة كبديل لثقافة التسوية والاستسلام التي نالت من مكانة فلسطين كقضية مركزية عربية». كما أن المؤتمر يؤكد دائما حرصه على وحدة الأقطار أمام محاولات التجزئة والتفتيت. فالمؤتمر يعتبر أن الحفاظ على وحدة الأقطار أرضا وجماهير من وحدة الأمة وبالتالي يحذّر ويندّد بكل أشكال الفتنة سواء كانت عرقية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية أو عشائرية أو مناطقية التي تشكّل البيئة الحاضنة للتدخّلات الخارجية. وبالتالي يرفض أي شكل من أشكال التدخّلات الخارجية سواء كانت عسكرية أو سياسية أو دبلوماسية أو إعلامية أو اقتصادية أو ثقافية في شؤون الأقطار. هكذا كانت مواقف المؤتمر في الأزمة الليبية وهكذا هو موقف المؤتمر في الأزمة السورية. ونقتبس من مقرّرات المؤتمر في شأن الأزمة السورية للتأكيد على ذلك: «إن المؤتمر، انطلاقا من ثوابت المؤتمر في رفض الاستبداد والفساد والتبعية. فإنه يؤكد على:
1- حقوق الشعب السوري الكاملة في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة.
2- ضرورة إيقاف العنف أياَ كان مصدره.
3- الانخراط في حوار وطني شامل من خلال مناخات حقيقية، بهدف تحقيق تطلعات الشعب السوري، وحماية المدنيين والحفاظ على دور سوريا الوطني والقومي.
4- رفضه المطلق لأي شكل من أشكال التدخل الأجنبي، أياَ كانت أطرافه وطبيعته ومبرراته، كما لرفضه عسكرة الانتفاضة والاحتراب الطائفي.
5- رفضه الكامل لكل أنواع الحصار المفروض على سوريا وشعبها، كما يطالب بإلغاء إقصاء سوريا عن الجامعة العربية وقطع بعض العلاقات العربية معها، ويطالب بإعادة النظر في هذه القرارات وإلغائها.
6- إدانة كل الأطراف التي تعمل على عرقلة أي حل سياسي وتسهم في إذكاء الفتنة بإغراق سوريا بمختلف أنواع الأسلحة وبعرقلة الحوار الوطني والوصول إلى حلول سوريّة - سوريّة للأزمة، وخصوصا تلك التي تنكر على مواطنيها الحد الأدنى من حقوقهم السياسية.
7 - كما ينوه المؤتمر بالمعارضة الوطنية التي ترفض التدخل الأجنبي وعسكرة الانتفاضة والاحتراب الداخلي، ويدعو قوى المعارضة كافة إلى توحيد موقفها حول هذه الثوابت».
الملاحظة الخامسة التي تؤكّد أن المؤتمر «ميزان» الأمة هو في جدّية النقاش حول أبعاد المشروع النهضوي العربي. فالمشروع ليس مجموعة شعارات بل مواضيع في غاية الأهمية ترسم معالم مستقبل الأمة. تميّز المؤتمر الثالث والعشرون بمستوى الأوراق والمداخلات التي تلت عرض الأوراق المقدّمة مما يدّل على الشعور العميق لدى المؤتمرين بجدّية الأوراق المقدّمة وبالتالي المساهمة في التعليق عليها. تناولت الأوراق المحاور الستة للمشروع النهضوي العربي وما تمّ من تحقيقها خلال عام من الحراك الجماهيري تلتها مداخلات قيّمة من الحضور المشاركين. ستنشر تلك الأوراق والمداخلات قريبا على الموقع الإلكتروني للمؤتمر.
الملاحظة السادسة التي تدل على النظرة الشاملة للمؤتمر لقضايا الأمة كافة هو تغطيته في بيانه الختامي لجميع الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج. ليس هناك من أزمة تعصف بأقطار الأمة إلاّ وتناولها المؤتمر وعبّر عنها البيان الختامي الذي تميّز بشموليته من جهة وباختصاره من جهة أخرى معبّرا عن مواقف سياسية وفكرية حاسمة وعميقة. ونشير هنا أيضا إلى أن مناقشة البيان الختامي في الجلسة الأخيرة للمؤتمر استغرقت عدّة ساعات مما دلّ على جدّية المناقشات والحرص على الخروج بمواقف تعكس السمة «التوازنية» للمؤتمر في مواقفه كافة من القضايا الساخنة والمصيرية.
وأخيرا لا يمكننا أن نغفل أن العديد من المشاركين يتمنّون على المؤتمر أن يقوم بأعمال هي حاليا فوق طاقته وإمكانياته المادية كإنشاء محطة فضائية قومية أو صحيفة قومية أو صندوق قومي يؤمن احتياجات العمل القومي. فالمؤتمر القومي العربي ومن خلاله التيّار القومي العربي ما زال محاصرا ومحروما من مساهمات قد تساعد في استنهاض العمل القومي. في هذا السياق نشير إلى الورقة المميزة للأمين العام السابق الأستاذ معن بشور حول سبل استنهاض العمل القومي مما يدّل على الوعي الكامل بأن العمل القومي مازال دون المستوى المطلوب وذلك لعدّة أسباب تعود في الأساس في رأينا إلى محاصرة العمل القومي والتيّار التابع له من قبل قوى تحالف الاستعمار والصهيونية وأدواته العربية، كما بسبب الأحقاد بين النخب التي تضع مصالحها الخاصة فوق أي اعتبار. ولكن نرى أن المؤتمر مستمرّ في مسيرته وهو يدخل عامه الرابع والعشرين رغم كل الصعاب والمتاعب والأحقاد.
* أمين عام المنتدى القومي العربي وعضو
الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي