زاوية غائمة
وصية أمّي تناقض وصايا الأصدقاء
تاريخ النشر : الأربعاء ٢٠ يونيو ٢٠١٢
جعفر عباس
أذكر أنني دخلت بيتنا في حي المساكن الشعبية في الخرطوم بحري، وأبلغت أمي واثنين من أخواتي بأمر ابتعاثي إلى لندن، وفوجئت بنصف سكان الحي يقتحمون بيتنا، ذلك أن والدتي رحمها الله أطلقت - كعادتها كلما سمعت خبرا مفرحا - زغرودة ذات ذبذبة تجعل مقياس ريختر يصاب بالشلل الرعاش، فجاء الجيران أفواجا للسؤال عن سر الفرحة، ومن ثم «المباركة».. وهكذا - ومن دون قصد منها - خربت بيتي، فقد وجدت نفسي ملزما بشراء بضعة صناديق بيبسي كولا (كان السودان مثل بقية الدول العربية يقاطع في ذلك الزمان شركة كوكا كولا.. قال إيه عندها مصنع في إسرائيل.. ودار الزمان دورة قصيرة فصار العرب يستوردون إسرائيل بحالها) وطارت كل مدخراتي لذلك الشهر خلال دقائق ولكن من يفز بسفرة مجانية إلى بريطانيا فلا بد ان يكون فنجريا، ويحتفل بالمناسبة على نحو لائق، ولهذا كنت في منتهى السعادة وأنا أوزع البيبسي على الجيران، وانتهزها الأطفال فرصة فكان منهم من يخبئ الزجاجة في جيب جلبابه ويمد يده طالبا زجاجة وهو يصيح مبروك.. «ولكن أعلى جعفرون يا فرعون: إلحق يا عفريت.. جلابيتك مبلولة بمادة سوداء سائلة».. الغريب في الأمر أن كثيرا من الضيوف «قرطع» البيبسي رغم أن معظمه كان «يغلي» أي من الصندوق رأسا، لأن الثلاجة التعبانة في بقالة الحي لم تكن تتسع لأكثر من عشر زجاجات.
وحلّ المساء وحل معه مزيد من المهنئين والمباركين من أطراف مدن عاصمتنا الثلاث، وظللنا في البيت في حالة سهر وسمر حتى انفضاض الضيوف، وبعدها «استفردت» بي أمي وقالت بلسان نوبي «فسيح» وهي تلوح بإصبعها السبابة: شوفي يا جافر.. كل هاجة إلا بنات الهواجات لأنهم بنات هرام.. ودخلت في موال طويل عن بنات الخواجات ذوات العيون الزائغة، وكيف انهن سيحاولن استدراجي للاقتران بهن وكيف ان الاقتران بهن بعقد زواج او من دونه «هرام قطعا».. مما جعلني أنصت لها ولا أفكر في مقاطعتها هو أنها كانت تتحدث وهي واثقة من أن ولدها (أنا) شخص فتاك وفتان وفنان، ولهذا سيكون مستهدفا من قبل بنات الإنجليز (للأمانة كانت تسميهن «بنات الكفار»)، وظلت تلف وتدور حول هذه النقطة مذكرة إياي بأن أولئك البنات بائرات «وسوقهن واقف» أي راكد، ومن ثم لا يطلبن ممن يردن زواجه مهراً.
الغريب في الأمر أن معظم أبناء جيلي أيضا لم يهمهم من أمر ابتعاثي إلى لندن إلا أن ذلك سيتيح لي فرصة إقامة علاقات مع بنات الخواجات، ويا ما سمعت عبارة: بختك.. تملأ عينك وبطاريتك من بنات بريطانيا، وأوع ترجع «إيدك فاضية».. يعني على عكس أمي كانوا يريدون لي ان أعود متأبطا ذرع خواجاية، لأن الزواج بها لن يكلفني شيئا، ومازال الفهم المريض بأن بنت أوروبا وأمريكا تموت في دباديبك بمجرد ان تغمز لها بعينك، سائدا إلى حد ما (بالمناسبة ما هي الدباديب؟ وسألتكم كثيرا: أي جزء من الجسم هو الكراديس؟ يعني هل جسمي فيه «كردس» ولا علم لي بوجوده أو مكانه).. وتكررت زياراتي للندن في سنوات لاحقة ورأيت نماذج تكسف من الغزل والتحرش العبيط من قبل سواح عرب في شوارع لندن: هاي لايك تو دانس؟ وونت درِنك؟ يو مي هوتيل؟ فتنظر البنت إلى هذا الصنف نظرة ازدراء، هذا إذا لم يصبها ذعر هسيتري واستنجدت باسكتلنديارد.
jafabbas19@gmail.com