الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٠٨ - الخميس ٢١ يونيو ٢٠١٢ م، الموافق ١ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

اتفاق إسرائيل والفاتيكان:

هل هو خطوة جديدة على طريق ضياع القدس؟





في الوقت الذي تمضي إسرائيل بلا هوادة في عملية تهويد مدينة القدس من خلال إجراءات متسارعة غير شرعية هدفها محو الهوية العربية للمدينة.. يجيء الحديث عن الاتجاه لتوقيع اتفاق بينها وبين الفاتيكان بشأن تنظيم الوضع القانوني لممتلكات الكنيسة الكاثوليكية في مدينة القدس بصورة تسمح بتطبيق القوانين الإسرائيلية عليها ليثير الكثير من الجدل والقلق في الأوساط الفلسطينية والعربية بالنظر إلى ما يعنيه ذلك من اعتراف الفاتيكان بشرعية الإجراءات الإسرائيلية في المدينة، وبالتالي قد يكون ذلك مقدمة للاعتراف بشرعية ضمها لهذه المدينة، وهو ما يخالف بالمجمل القانون الدولي والحق الثابت للشعب الفلسطيني في القدس الشرقية، ورغم أيضًا أن هناك اتفاقًا بين الفاتيكان ومنظمة التحرير الفلسطينية وقع عام ٢٠٠٠ يؤكد أن القدس أرض محتلة بموجب القانون الدولي والسيادة فيها للشعب الفلسطيني ولمنظمة التحرير الفلسطينية.

وإذا كان البعض يرى أن اتجاه الفاتيكان إلى توقيع الاتفاق المذكور يرجع في جانب منه إلى أن الكرسي الرسولي دأب في السنوات الماضية على التقيد بالواقع القائم من حيث وجود سيطرة احتلالية على المناطق المقدسة في القدس، وأن التطور الجديد يعني أن الفاتيكان بدأ ينتقل من التسليم بواقع قائم إلى واقع قانوني يمنح الاحتلال الشرعية، فإن هذا التحول في الموقف لم يكن سوى نتاج لتحولات شهدتها العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية واليهود من ناحية وبين الكنيسة وإسرائيل من ناحية أخرى، وهذا التحول هو الذي أسهم في تجاوز الصعوبات والعراقيل التي واجهت مفاوضات البلدين لتحديد التنظيم القانوني لوضع الممتلكات المسيحية التابعة للكنيسة في القدس، التي استمرت بدورها ما يقرب من ١٨ عامًا (أي منذ عام ١٩٩٤).

ولكن قبل التعرض لاتفاق إسرائيل والفاتيكان ومخاطره على وضع مدينة القدس وكيف وصل إليه الطرفان، لابد أن نعرض أولاً وبصورة سريعة للكيفية التي تحقق بها التوافق بين الكنيسة الكاثوليكية وإسرائيل لندرك مدى وكيف أن هذا التوافق من الممكن أن يحمل الكثير من المخاطر على الحقوق العربية الفلسطينية في قضية مهمة وحيوية مثل القدس، التي لها مكانة خاصة عند العرب وعند الشعب الفلسطيني.

لاعتبارات عقدية كان هناك تناقض بين الحركة الصهيونية والعقيدة الكاثوليكية التي يمثلها الفاتيكان منذ مؤتمر بازل عام ١٨٩٧، وقد أكد البابا «بيوس العاشر» هذا التناقض في لقائه الزعيم الصهيوني «ثيودور هرتزل» عام ١٩٠٤؛ حيث أعلن معارضته للحركة الصهيونية وهجرة اليهود لفلسطين، ثم اعترضت الكنيسة على «وعد بلفور» .١٩١٧

وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وبسبب الدعاية الصهيونية حول ما يسمى «معاناة اليهود خلال الحكم النازي» تعاطف بعض الكاثوليك مع الفكرة الصهيونية، إلا أن موقف الفاتيكان اقتصر على اعلان تأييد مسألة «تدويل القدس» وفق الخطة التي أقرتها الأمم المتحدة بشأن فلسطين عام ١٩٤٧ وكان موقف الفاتيكان من قيام إسرائيل عام ١٩٤٨ هو «الحياد» أي لا اعتراف ولا إدانة مع تزايد الاهتمام بتدويل القدس وقضية اللاجئين العرب.

ولقد بدأ التحول الفعلي في العلاقات مع تولي البولندي «كارول جوزيف فويتيالا» كرسي البابوية تحت اسم «يوحنا بولس الثاني»؛ حيث شرع الفاتيكان بتقديم مجموعة تنازلات حيال اليهود اعتبرت تمهيدًا لتخليه عن القضية الفلسطينية وتوطئة لدخوله في مصالحة روحية وسياسية مع اليهود؛ حيث فاجأ البابا العالم بتبرئة اليهود من خطيئة تعذيب وصلب وقتل المسيح - كما يعتقد المسيحيون - وذلك من خلال وثيقة أقرها الفاتيكان، ودعا إلى ما سماه تصحيح علاقة المسيحيين باليهود والعمل على إعادة النظر في التراث الكنسي نفسه وتعديل ما يمكن تعديله بقصد نزع ما يؤدي إلى تكوين وعي معاد لليهود داخل الكنيسة الكاثوليكية.

وبدوره لم يكن إصدار تلك الوثيقة الفاتيكانية خطوة أخيرة، بل تبعتها خطوات لاحقة في الإطار ذاته؛ حيث اعترف الفاتيكان عام ١٩٩٣ بدولة إسرائيل.

وفي تطور للعلاقة بين الفاتيكان واليهود عقد الأول في نوفمبر ١٩٩٧ مؤتمرًا بحضور ٦٠ شخصية من أبرز رجال الكنائس العالمية لتدشين مجموعة مقترحات تمهيدًا لصدورها في وثيقة تحت عنوان جذور معاداة اليهود في الأوساط المسيحية، ووصف البابا «يوحنا بولس» الهدف منها بأنه عملية ترتيب وتنظيف للذاكرة المسيحية من الأفكار المعادية للشعب اليهودي، وتلا ذلك وتحديدًا في ١٢/٣/١٩٨ توقيع البابا وثيقة «نحن نتذكر» وصدق على محتوياتها في ١٦/٣/١٩٩٨ ووصفها بأنها «طلب غفران» للأخطاء التي ارتكبها بعض المسيحيين في حق اليهود.

وبتلك الوثيقة خطا الفاتيكان خطوات واسعة نحو تهويد الكاثوليكية؛ إذ إن الاعتذار الفاتيكاني الأخير دعا المسيحيين صراحة إلى مد جسور التواصل مع تعاليم العهد القديم، وربما لإنهاء الفصل بين التاريخ الديني اليهودي القديم واليهود الحاليين مما جعل فكرة الحلم اليهودي أو العودة إلى أرض الميعاد - فلسطين من الثوابت العقدية الكاثوليكية في المستقبل.

تلك الإطلالة على تاريخ تطور العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية واليهود ودولة إسرائيل هي التي تفسر في النهاية التطور الأهم الذي توجت به هذه العلاقة، والذي مازالت آثاره وتداعياته قائمة حتى الآن التي نحن بصدد التعرض لها وهي تنظيم إدارة ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية في القدس؛ إذ كان من ثمار تطور العلاقة إبرام الفاتيكان في نوفمبر ١٩٩٧ - وهو التوقيت نفسه الذي انعقد فيه مؤتمره الذي ناقش فيه وثيقة الاعتذار لليهود - اتفاقًا المرة الأولى مع إسرائيل يمنح الكنيسة الكاثوليكية ومؤسساتها في القدس وضعًا قانونيٌّا واستقلالاً إداريٌّا في الداخل، غير أن الاتفاق قضى بتطبيق القانون الإسرائيلي في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالعالم الخارجي، وهو ما كان يُعد اعترافًا ضمنيٌّا من قبل الفاتيكان بأن مدينة القدس هي عاصمة إسرائيل.

إذًا اعتراف الفاتيكان بالقدس واقعيٌّا عاصمة لإسرائيل لم يكن وليد الاتفاق الاقتصادي الذي يتجه الجانبان لإبرامه فيما يخص إدارة تلك الممتلكات، ولكنه وليد اتفاق عمره ١٥ عامًا، فأين كان العرب والفلسطينيون خلال كل هذه المدة.. ولاسيما أن الطرفين إسرائيل والفاتيكان على مدى كل هذه السنوات دخلا في مفاوضات حول قضايا خلافية مرتبطة بتلك الممتلكات الكنسية وبجباية الضرائب من الأديرة والكنائس، بيد أنها لم تحسم لأنه مع كل تغيير في تشكيلة الحكومة الإسرائيلية يأتي وفد المفاوضات بمواقف جديدة، فضلاً عن أن الحكومة الإسرائيلية ظلت تعارض التخلي عن قاعة جبل الزيتون والأراضي الشاسعة التي تملكها الكنيسة؟

معنى ذلك أن الاتفاق المثار حوله الجدل حاليا الذي طالب العديد من الفصائل الفلسطينية وكذلك الجامعة العربية الفاتيكان بعدم المضي فيه لم يكن مفاجئًا بل كان نتاج مفاوضات استغرقت سنوات طويلة (كانت آخر جولة منها في ٢٥ يناير ٢٠١٢) وكانت تستلزم متابعة حثيثة من الجانبين الفلسطيني والعربي بالنظر إلى المخاطر والتداعيات التي يحملها إبرام مثل هذا الاتفاق من إضفاء وضع قانوني غير شرعي يكرس السيطرة الإسرائيلية على مدينة القدس التي تحتلها منذ يونيه .١٩٦٧

ومع الإقرار بأن هناك تقصيرًا من الجانبين العربي والفلسطيني في متابعة ما كان يدور من مفاوضات بين إسرائيل والفاتيكان في مسألة مهمة كمسألة ممتلكات الكنيسة الكاثوليكية.. فإن الفشل في التحرك المبكر لمواجهة مثل هذا الاتفاق والعمل على منعه ونجاح إسرائيل في إبرامه يحمل في طياته بعض التداعيات السلبية قد يكون منها الآتي:

١ - الاتفاق يعني من جديد تخلي الفاتيكان عن موقفه التاريخي الرافض للاعتراف بالولاية القانونية للاحتلال على القدس.

٢ - الاتفاق ينطوي على اعتراف الفاتيكان بالوضع القانوني غير الشرعي الذي فرضته إسرائيل كقوة احتلال ـ غداة سيطرتها على القدس في يونيه ١٩٦٧ - على المناطق والكنائس التابعة لها في المدينة.

٣ - مكانة الفاتيكان الروحية ستكون سببًا لدفع كثير من الدول إلى عقد اتفاقات مماثلة مع إسرائيل وستفتح شهية الأخيرة لعقد مزيد من الاتفاقات التي تحقق لها الضم القانوني للقدس، وذلك بعد إنهاء الضم الفعلي بنجاح من خلال عمليات تهويد وتهجير السكان.

في حقيقة الأمر ان ما يجري خلف الكواليس من اتفاقات وصفقات بين إسرائيل وبعض الأطراف الدولية ومنها الفاتيكان لا يعني سوى أن إسرائيل ماضية في تنفيذ مشروعها التهويدي في القدس من دون كلل أو ملل، وأنها لا تتردد في القيام بخطوات أو اتخاذ إجراءات تحاول من خلالها إضفاء شرعية على احتلالها لتلك المدينة المهمة ضاربة بعرض الحائط القرارات الدولية كافة التي تؤكد الوضع الخاص للمدينة (قرار التقسيم ١٨١ لعام ١٩٤٧ الذي جعل منها مدينة دولية) أو التي تصفها كأرض محتلة (كالقرارين ٢٤٢، ٣٣٨)، ولكن إذا كانت إسرائيل ماضية في مشروعها التهويدي بالقدس وتسعى إلى إضفاء شرعية على احتلالها للمدينة سواء بفرض الأمر الواقع أو من خلال اتفاقات تفرض وضعًا قانونيٌّا غير شرعي على المدينة.. فأين الدول العربية والإسلامية مما يجري في القدس؟.. وهل ينتظر العرب حتى يجدوا أنفسهم بين يوم وليلة أمام الأمر الواقع حين تعلن إسرائيل فعلاً أن القدس هي العاصمة الأبدية للدولة العبرية، وبالتالي تتوالى اعترافات دول العالم بهذا الواقع الجديد؟

من الواضح أن العرب منشغلون عن القدس بأمور أخرى ويبدو أنهم غير معنيين بها، فهم لا يبدون اهتمامًا سوى في المؤتمرات والملتقيات بإلقاء الخطب وقصائد الشعر.. بينما التحرك الجاد من أجل إنقاذ المدينة مما يحاك لها من مؤامرات فلا يوجد.. فلجنة القدس المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي والمعنية بملف المدينة المقدسة تبدو في سبات عميق إن لم تكن قد ماتت؛ إذ لا يُسمع عنها أن لها دورًا أو اتخذت أي خطوة لمواجهة ما تتعرض له المدينة من مؤامرة.

إن المطلوب في الوقت الحالي تحرك سريع وجاد عربي - إسلامي يضع حدٌّا لسياسة التهويد الإسرائيلية ومحاولات إضفاء شرعية غير قانونية على احتلال إسرائيل للمدينة، فالمؤتمرات والخطب لم ولن تجدي لإنقاذ القدس على أن يكون التحرك أولاً في اتجاه الفاتيكان حاضرة العالم المسيحي الكاثوليكي لتوضيح خطورة اتفاقه مع إسرائيل على وضع مدينة القدس التي تعتبر بموجب القرارات الدولية مع الضفة الغربية وغزة أراضي عربية محتلة، كما يجب أن يكون هناك تحرك في اتجاه الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية من أجل إيجاد ضغوط على إسرائيل تحد من مساعيها لتغيير الوضع القانوني للمدينة، فقضية القدس جزء حيوي لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، ويجب أن تبقى كذلك لأن معنى حسم وضعها لصالح إسرائيل بما تتخذه من إجراءات غير شرعية.. تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، وهذا ما تريده وتسعى إليه إسرائيل.. وللأسف يساعدها العرب عليه بضعفهم وسلب































.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة