أفق
مناضلون بلا قواعد
تاريخ النشر : الخميس ٢١ يونيو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
تتشكل الجماعاتُ الديمقراطيةُ والماركسية فوق الحماسة واللغة الاستيرادية الفكرية القادمة من مناطق متطورة إلى مناطق أقل تطوراً. مثلما غذت توده اليسارَ البحريني في مرحلةٍ سابقة.
لقد تشكلت فوق مهمات التحرر الوطني المهمة والمطروحة بقوة لكن تعاليم لينين أمحتْ الفوارقَ بين مرحلةِ التحرر الوطني وبناء الاشتراكية.
لقد أجهضتْ عدةَ أسسٍ جوهريةٍ لنمو التيارات الديمقراطية الحديثة، كالارتكاز على القومية العربية كأداةٍ رئيسية للتحرر الوطني في المنطقة، وعدم تطوير الدين كما هو مُنتجٌ نضالي عقلاني، وألغتْ التحالفَ مع الفئاتِ الوسطى لتشكيل مجتمع رأسمالي ديمقراطي تحديثي علماني المؤسسات السياسية، وتصعيد حضور الطبقات الشعبية في السياسة والتعليم والثقافة وعدم جرها لمغامراتٍ سياسية فوق قدراتها الاجتماعية والفكرية.
فما هو مركزي في هذه التيارات هو تصعيد مثقف محوري قيادي يكون على هيئةِ لينين وعبر الاعتمادِ على المقاطع الصغيرة المفتقدة للدراساتِ التي تتحولُ لمنشوراتٍ ملتهبة، وهو ما يؤسسُ ضحالةً في الوعي متجذرة، وتبسيطاً لظاهراتِ النضال، كذلك تتضاءل الديمقراطيةُ وتسودُ البيروقراطيةُ الحزبيةُ بدعوى السرية، لكونها لا تستطيع أن تشكلَ قيادات جماعية ولا هيئات ديمقراطية سواءً من خلال نسيجِها العامي الشمولي، أو من حيث اعتمادها على تنظيماتٍ غيرِ علنيةٍ لا تستطيعُ القيامَ بهذه الأسس الديمقراطية، فيعتمدُ الأمينُ العامُ على نفسه أو على مجموعة صغيرة تفتقدُ على مرور السنين العلاقة بالجمهور وبالنظرية.
إرتكازُ الجماعات هذه على (اللينينية) يعبرُ عن الارتكاز على رأسماليةِ دولةٍ أُقيمتْ على أسسِ المغامرةِ والدكتاتورية والانتقائية النظرية، حيث يقومُ الحزبُ بالاعتماد على ذاتهِ من خلالِ شكلٍ تحريضي دائمٍ لتأجيج الثورة، ويرتكزُ على تلك الأسس، فنموذجُ الأمين العام المؤسسِ الروسي سيكونُ متجذراً في الأمين العام المؤسس الوطني، ويجري استخدام التكتيكات نفسها التي ظهرتْ لإنتاجِ الثورة البلشفية هناك.
يمكن الانطلاق من البذور الوطنية المحلية من نضالٍ وجماعات لتغلغل الحزب، وتُلغى الدراساتُ الموضوعيةُ للبناءاتِ الاجتماعية في كلِ دولة، حيث ينخرطُ الحزبُ فيما هو يومي نقدي تهييجي، وتُعلى الإرادة الذاتية بشكل نضالي حماسي خلاق حتى تتجاوز القوانين الموضوعية، حيث إن القوانين الموضوعية للتشكيلة الإقطاعية مرفوضة، ويجري دمجها بالتشكيلة الرأسمالية، لتُضربانِ معاً عبر تلك الإرادة العالية المضحية المتآكلة على مدى الزمان الصعب القادم.
جوهر اللينينية يعتمدُ على حرق المراحل لتغدو التحالفات غير مدروسةٍ على الأسسِ الموضوعية لصراع وتعاون الطبقات، فالاشتراكيةُ تصيرُ هدفاً غير مرئي، وما التحرر الوطني سوى واجهة له، ويمكن للجبهة القومية في اليمن الجنوبي أن تتحول بين كارثة وأخرى إلى حزبٍ إشتراكي يخوض مغامرات رهيبة فاشلة.
لهذا وجدنا أن مُصدّر الفكرةِ حزب توده الإيراني هو بذاته لا يعرف إدارةَ النضال في بلده، ويؤدي لدكتاتوريتين مَلكية ثم طائفية قومية تضعنا جميعاً في المنطقةِ في مرحلة الخطر.
مثلما أن الحزب في العراق يعتمد التهييج المتنامي لسحق المَلكية والاستعمار مع غياب التحالفات بين الطبقة العاملة والبرجوازية وتصعيد الديمقراطية بشكل دائب وإصلاحي طويل، ثم نجدُ أنفسَنا في حروبٍ ضارية متتالية حتى يغدو العراق خريطةً فسيفسائية ملتهبة أو محروقة.
المجموعاتُ المتعددةُ في هذه البلدان رغم تضاريس شعوبها المختلفة استعملت روشتةً طبيةً واحدة، المكتوب فيها تلك الخطوط العريضة للطبيب السوفيتي ذي الشهادة غير الدقيقة.
تغييبُ القوميةِ والإسلام وظروف كل بلد، تعبيرٌ عن عدم أهميتها، فإلارادةُ الثوريةُ تغيرُ الخرائط، ويُحضر اسم البروليتاريا ليختصر كلَّ الظروف، وتندفع الحماسة وتدفع العامة البسيطة الوعي المشحونة بالشعارات والأيديولوجيا المسطحة، لتسود الشوارع، لكن لا تحدث التغييرات على النسق الأصلي المستورد. لكون النسق الأصلي بُني على مغامرةٍ ظهرتْ بسبب كوارث الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة الروسية ومعاناة الجماهير بعد قتل الملايين، فيما الدول الوطنية الجديدة تنمو في ظروف مغايرة.
كانت سياساتُ الجبهاتِ الوطنية والتراكم الديمقراطي الطويل الأمد ونشر التحديث، وتطوير أحوال الجمهور ونقله من الأمية والخرافة والفقر هي المطلوبة في هذه المجتمعات المتخلفة التي هي بحاجة إلى تطورات أساسية قبل أن يُزج بها في تحولات عالمية من دون جذور، وهي أمورٌ سوف تواصلها الجماعاتُ الدينية معتمدةً هذه المرة ليس على نموذج مستقبلي من الفضاء بل على نموذجٍ مؤدلج متخيل محافظ من الماضي البعيد، لكن هدم الأسس الموضوعية للتطور الديمقراطي الأولي ساعد هذه القوى الدينية على الصعود متوهمةً أنها هي التي حققت ذلك الخرابَ الاجتماعي السابق الذي تؤدلجه باعتباره انتصارا على قوى الكفر والتغريب.
في كلا الجانبين يغيبُ التأسيسُ الموضوعي لتطور البلدان العربية والإسلامية، التعاوني التحالفي الاختلافي لتصعيد قوى النهضة، والتقدم، وفي حين وجد الديمقراطيون والماركسيون أنفسهم بلا جمهور يظن الدينيون أنهم حققوا جمهوراً، وهو ليس بجمهورِ تحولٍ فهو ذات الجمهور السابق ولكن اختلفت أصباغُهُ الخارجية ولكن المضمون الشمولي المحافظ الذكوري الحماسي الشعاري المذهبي الغائر هو نفسه وأن كان الأخير قد برز بحدة.
العودةُ إلى مهمات التوحيد والنهضة والتنوير والإصلاحات الجزئية المتصاعدة والعقلانية مهمة لتجنب انهيار مرحلة سابقة وانهيار مرحلة جديدة متجمعتين على رؤوس الناس. ولابد من تعاون كل التيارات الحديثة الماركسية والإسلامية والقومية لكي لا نكررَ أخطاءَ الماضي.