أفق
الصراعُ بين التقليديين في ذروتهِ بمصر
تاريخ النشر : السبت ٢٣ يونيو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
الصراع بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين يتكرر مرة أخرى بعد أزمة مارس سنة 1954، كأن البلد لم يتطور وكأن التقاليدَ الديمقراطية لم تَسُدْ بين الجانبين.
هو عقابُ التاريخ ضد الريفيين الذين استولوا على الحكم في انقلاب يوليو 1952، ولرفضهم تنامي البرجوازية المدنية الحرة وحزب الوفد وتصعيد نظام ديمقراطي علماني تحديثي.
البرجوازياتُ الصغيرةُ التي دخلتْ لإنتاجِ نظامٍ على مقاسها تستمر في الصراع من دون اتفاق على العودة للثوابت الديمقراطية الإنسانية.
الجسمُ القوي في هذه الفئات الوسطى الصغيرة هم الضباط الكبار الذي جذروا امتيازاتهم وسلطاتهم في المجتمع عبر المؤسسات الاقتصادية واحتكارها الكثير من المنافع.
حكمُ العسكرِ لا يريد أن يترك كل هذه الامتيازات والرفاه ويعترف بتداول السلطة والثروة الوطنية بحسب مساهمة الطبقات والسكان، مؤسِّسا مشروعات سياسية غرائبية ذاتية، فمن هيئة التحرير حتى الاتحاد القومي إلى الاتحاد الاشتراكي إلى التنظيم الطليعي إلى الحزب الوطني الديمقراطي، وهي كلها تنظيماتٌ سياسية بيروقراطية لا علاقة لها بالحياة الحقيقية.
وبعد أن دعا الضباطُ الكبار إلى القومية العربية والاشتراكية عادوا إلى الليبرالية الناقصة والديمقراطية المعلبة حكوميا، ولكن في كل هذه التحولات والرقص على الحبال السياسية الوطنية ظلت الطواقم العسكرية تديرُ البلدَ وتتحول من ايديولوجيا إلى أخرى حسب الرئيس وتوجهاته، بحيث إن العسكريين لم يقدروا حتى على تشكيل طبقة منصهرة تؤمن بمبادئ معينة.
هم ورثوا الدكتاتورية التقليدية الحاكمة السابقة من دون هوامش الليبرالية والديمقراطية، فخربوا البيئةَ السياسيةَ الثقافية المصرية خلال عقود، وهي التي كانت واعدةً بالتنوع والديمقراطية في الثلاثينيات والأربعينيات، ونتيجة القهر والإذلال للشعب الذي تبخرتْ تنظيماتُهُ الحديثة المنوعة، أو ذابتْ في كيان السلطة وحصدتْ بعضا من عطاياها، صمد بعضُ الرموز مثل سيد قطب في السجن وقبلَ الإعدامَ على أن يمد يده للنظام، وألف في السجن كتبه الداعية إلى الهجوم على العصر وحداثته (الزائفة) وروّجَ للعودة الحادة للتراث وأشكاله التقليدية.
أدت هذه الرمزيةُ المقاومةُ للاستبداد إلى تجذرِها في الأرض الشعبية، مع عدم قدرة الأشكال التحديثية المجلوبة من قبل الطبقة العسكرية الحاكمة على أن يكون لها أثر عميق واسع في الأرض الوطنية، والشعبُ لا يرى سوى الفساد والامتيازات التي تُغدقُ على أصحاب النفوذ، فلا تتغلغل هذه الأشكال والأفكار في نسيج حياته، ويعود إلى ممارسة أشكاله الدينية التقليدية.
وفيما أحب الشعبُ جمال عبدالناصر كزعيم وطني مخلص وكقائد وزع مكاسبَ مادية على الناس، لم ير منه فكرةً ديمقراطية تواصل ما أنتجتهُ الأجيالُ السابقة من نظام ديمقراطي، فيما أن سيد قطب تركَ أثرَهُ الأيديولوجي وقراءته الباترة الشمولية للإسلام في قوى سكانية راحت تتمسكُ بدعوته وتتغلغل في الممارسات والمراكز العبادية وتتغذى من الفشل المستمر للطبقةِ العسكرية الحاكمة ومغامراتها الفاشلة وفساد بعض ضباطها.
التوجه الديمقراطي التحديثي من الوفد وحكم الضباط الأحرار لم يحسم أمره بالانتقال من علاقات الإنتاج الإقطاعية إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية، فظلَّ مُراوحا في إبقاء الأرض الزراعية خاضعة للإقطاعيين الأفراد وأسرهم، ولم يقم بنقل النساء من خانةِ الجواري إلى كونهن مواطنات حرائر، وظلت الدولةُ قوةً استبدادية متعاليةً هي التي تقرر كلَ شيء، ومذهبية دينية محافظة لا تقيمُ المساواةَ بين المواطنين والطبقات الفقيرة والغنية.
في العمق نجد الضباط والإخوان من مذهبية واحدة تقليدية وبرساميل متضادة بدلاً من أن تتجمع وتكون رأسماليةً حرة.
حداثيون زعموا انتماءهم إلى الحداثة من دون تحقيقها، فطبقة البرجوازية عبر الوفد لم تجذرْ التصنيعَ الخاص وتفككْ الإقطاعَ بمختلف أشكاله، والضباط ورثوا هذه البنيةَ التقليدية واستغلوها لمصالحهم، وكانت مشروعات الحداثة منافع لهم.
كما استغلها من جانب مضاد الإخوان وصعّدوا جوانبَها المحافظةَ واستغلوا ثغراتها وتخلفها ليضربوا خصمَهم العساكر من دون أن يتحولوا هم للحداثة والديمقراطية إلا بأشكال قشورية لا تصل إلى العمق ولإحداث تحولات جوهرية في البناء الاجتماعي والنظام. جاءت لحظةُ المواجهة الثانية بعد كل هذه العقود، وتكررت أزمةُ مارس 1954، وكلٌّ يشد في جانب مصلحته، ويدعي بأنه هو المعبر عن الشعب.
العسكر يستغل أدواته السياسية والعسكرية الحاكمة وثغرات القانون بالحق والباطل، لكنه يتشبث بالسلطة بأي شكل من الأشكال، والإخوان صعدوا فوق رغبات الشعب الطويلة ضد هذه الطبقة العسكرية التي لا تريد أن تتزحزح عن الكراسي، لكن أقساما كبيرة من الشعب خائفة منهم، فهم لم يُعجنوا ديمقراطيا، ولم يُختبروا عبر مؤسسات شعبية تعددية طويلة، ولهم جذور في الاستبداد ورؤية شمولية مذهبية محافظة لا تخص حتى كل أهل المذهب، مما يجعل الناس حيارى ممزقين بين شموليتين أحلاهما