الثقافي
ما قاله الشاعر رمزا
تاريخ النشر : السبت ٢٣ يونيو ٢٠١٢
ما كتبته الدكتورة حياة الخياري في كتابها "أضف نونا" جعلنا جميعا ننصت لما لم نقرأه من قبل في تجربة شعرية عراقية سبعينية متميزة، نهلت من الحداثة الشعرية، وجعلت الشعر بابا من أبواب المعرفة الصوفية، كما انها أعادت إلى أذهاننا أصداء صوفية مهمة لتجربة أبي الحيان التوحيدي، الحلاج، ابن عربي، النفري، ابن الرومي، حافظ الشيرازي، وقدمت لنا المادة الخام التي عمل عليها الشاعر الحروفي لبلورة تجربته الخاصة به وبعصره، فالذات الشعرية في نظر شعراء الصوفية باقية، متصادية، متناصة مع غيرها، ممن سبقوا في ارتداء خرقة الصوفية، وطوعوا حرفهم ليقول عنهم ما عجز عن قوله الأقدمون، من حملة شعلة الكلمة، لغاية تغيير النفوس، وتقريب القريب، واستكناه الباطن، وقراءة الممحو، ومعرفة صاحب الأثر من أثره، وفهم التضمين من المضمن، والتأويل من المؤول، وجعل الذات في خدمة سيدها رب الوجود، ومد الحبل مع المحبين، وإكمال ما بدأوه، فلذلك تجد تجارب شعراء آخرين نهلوا من معين الحرف، وبحثوا في أسراره مبثوثة هنا وهناك في قصائد الشاعر أديب كمال الدين المبحوثة في كتاب "أضف نونا".
قسمت الكاتبة التونسية د. حياة الخياري مبحثها إلى عدة محاور، ابتداء من مقدمتها التي عنونتها "الرمز" و"الحرف" الأسس الصوفية، التي وضحت فيها تعريفات الرمز لدى شيخ المتصوفة ابن عربي والنفري، وما جاء في القرآن الكريم، من ذكر للرمز فقالت: "لعل أدق التعريفات للرمز ما حده به محيي الدين بن عربي: الرمز معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به إلا أهله، وما توقفت معرفة الرمز على أهل الباطن إلا لكون الرموز انبثاقا من الذات الإلهية"، وارتدادا إليها، إذ خوطب النفري: "يا عبد، رمزت الرموز فانتهت إلي، وأفصحت الفواصح فانتهت إلي" وغير بعيد عن المنظومة الصوفية ارتبط الرمز في السياق القرآني بمعنى التوليد والاحياء، فعبارة "رمز" وردت مرة واحدة في النص القرآني في سياق فريد خاطب به الله تعالى النبي زكريا عليه السلام: "قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا" سورة آل عمران آية 41".
وحين تحدثت عن شعرنا المعاصر ومساهمة الشاعر أديب كمال الدين فيه، قالت: "أما الشاعر المعاصر فلم يتبين الملمح الصوفي للرمز الحرفي، بمعزل عن رافده القرآني، وهو الميزة البارزة في منظومة الرمز الحرفي، عند الشاعر أديب كمال الدين بدءا من تمثله لماهية الرمز، وانتهاء بتوظيفه الإنشائي للحرف" ص .11
وشملت أبواب البحث: نون الزمن من قوسي الفلك والفلك، وتسترشد الكاتبة في هذا الباب بابن عربي في فتوحاته المكية ص 17 فتقول "تبدأ النون رحلتها بوجودها في حقل دلالي تكتنفه ملابسات معرفية تنهل من معين صوفي، ولا تنأى عما حف بالأساطير من "زخم" رمزي، يستشرف الخلود، مما يدعونا إلى تبيين وضع نقطة النون من دائرتي الفلك بفتح الفاء، والفلك بضم الفاء"، فصلا ووصلا، يقول ابن عربي:
نون الوجود تدل نقطة ذاتها { في عينها عينا على معبودها
فوجودها من جوده ويمينه { وجميع أكوان العلا من جودها
وفي باب نون نوح ونون يونس: مياه الفلك والحوت: ملاذ أم متاهة؟ ص 39 ترى الناقدة أن جنوح الشعراء نحو نون الأنبياء رغبة في كسر رتابة الزمن المعياري باقتحام زمن خارقي، وتوقا إلى التيه في بحر اللغة، والتبعثر بين مفاصل الحروف المتحررة من ضوابط الأبنية، والكيفية والكمية، وتستشهد بقول لجلال الدين الرومي فيلسوف الشعراء والمتصوفين في كتابه المثنوي عن هذه المعاني: "والعارفون بالأرواح فارغون من الأعداد، وهم غارقون في البحر الذي لا كيفية له ولا مقدار. فصر روحا، وعن طريق الروح اعرف الحبيب، وكن رفيقا للرؤية لا ابنا للقياس" وللتطبيق تتناول قصيدة "التباس نوني" للشاعر اديب كمال الدين المبحوث شعره في هذا الكتاب، التي يقول فيها: "هذه ليست النون/ هذه بداية مقدسة للنون/ هذا سطوع روحي/ وحب جارف كالشلال/ كاحتواء الهلال لنقطة النون/ هذا منفى بهيج/ وأناس متجهمون/ وبواخر تغرق/ ومنشدون يصدحون/ وموسيقى تهبط وسط رفيف الملائكة/ حول تمثال شمعي كبير لشاعر النون/ هذه قصيدة غريبة/ تشبه جزيرة تغرق في البحر:/ بحر ذي النون/ هذه هي النقطة /أعني هذا هو الهلال: هلال البحر وهلال السماء / هذه هي النون" ص.40
وتناولت الناقدة في باب نون عيسى ونون يوسف: مياه الرحم وتوهان نقطة "الناسوت" ص 77 اختيار الشعراء لنبيين كرمزين لمعاناتهم المعاصرة، هما عيسى ويوسف عليهما وعلى رسولنا محمد أفضل صلاة وسلام، وقد وجدت أن النبي يوسف عليه السلام، أكثر قربا لهم في معاناتهم الدنيوية لما عاناه سيدنا يوسف من اخوته وحسدهم، ومن نير العبودية، وقد كان من قبل حرا مدللا عند أبيه، ومن ظلم امرأة العزيز التي كانت تدعوه إلى الخيانة، وكان يرفض ما تريده منه متقربا بطهارته ونسكه وتعبده إلى الله تعالى، ومعاناته ظلامية السجن وقد كان يعيش في أفضل قصور مصر، وأحسنها عيشا ورفاهية، قبل أن يلقى به في ظلام السجن ظلما وافتراء، ولكن الناقدة تلمست في تجربة الشاعر كمال الدين مع هذين النبيين فهما أعمق لمعاناة نبينا عيسى عليه السلام، فهي تكتب ص78 أن الاقتباس الشعري لرمزية نون الأنوثة عند الشاعر أديب كمال الدين لم يتم بمعزل عن السباحة في رحم أخرى احتضنت مياه النبوة في امتزاجها بمياه الألوهة الا وهي رحم مريم، حيث احتل النبي عيسى موطنا أنثويا ضديدا لموطن النبي يوسف.
يقول أديب في قصيدة "موقف عيسى": "أوقفني في موقف عيسى/ وقال: يا عبدي/ أرأيت إليه../ وهو الذي حملت به مريم/ ليكون محبة للعالمين" وتناولت في باب "مآل إبحار النون: غرق الحرف أم إجهاض النقطة؟ ضرورة أنسنة نون الشعر، وجعلها أداة للشاعر قبل أن تكون حرفا مقدسا، نلقي بنون الشعر في خضم بحر النون حتى نتبين مظاهر المحنة، ثم نستدرجها باتجاه المرافئ كي نضمخها بشوائب الأنسنة، ومن ثم نعيدها مرة أخرى إلى اليم في رحلة ابحار جديدة ربانها الشاعر بدل النبي، أما عنوانها فنقطة ضياع جديدة في بحر لا ساحل له" ص.129
كتاب "أضف نونا" للناقدة د. حياة الخياري، أحد أهم الكتب النقدية التي صدرت هذا العام، الذي كان في الأصل جزءا من رسالة دكتوراه قدمتها الخياري، ونالت شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى من جامعة سوسة التونسية عام 2011 ودرست فيها اعمال أدونيس، أديب كمال الدين، أحمد الشهاوي، والكتاب ألقى ضوءا على تجربة شعرية عراقية متميزة، أضافت لونا شعريا مميزا سمي "الحروفية" لتجربة جيل الشعراء السبعينيين في العراق، ووضح الكتاب النقدي ما قاله الشاعر رمزا.
{ صدر الكتاب عن الدار العربية للعلوم ناشرون / بيروت - لبنان/ طبعة أولى عام 2012/ 192 صفحة من القطع المتوسط.
* كاتب وصحفي