الجريدة اليومية الأولى في البحرين


زاوية غائمة


أجهضوا حلمي

تاريخ النشر : السبت ٢٣ يونيو ٢٠١٢

جعفر عباس



قاتل الله «الحكومة» التي تدرب العاملين فيها على تنكيد عيشة الناس، فرغم أنني كنت أعرف عشرات الموظفين في وزارة المالية، التي خاطبتها وزارة الإعلام السودانية لتزويدي بتذكرة سفر إلى بريطانيا، وبالتالي كنت واثقا من أن الأمر لن يستغرق أكثر من بضع ساعات، إلا أنه ما ذهبت إلى تلك الوزارة إلا وسمعت كلاما من نوع: الورق في الحسابات.. الورق في المراجعة.. الورق عند مساعد الوكيل لشؤون البطيخ والمسلسلات.. الورق عند الوكيل... وبعد عدة أيام بلغني أن «الورق جاهز»، أي انه تم التصديق على منحي أمر شراء تذكرة موجها إلى شركة الطيران السودانية، ولكن.... ولكن إيه يا أولاد الذين؟ قالوا يجب الحصول على عدم ممانعة من جهاز الأمن على سفرك خارج البلاد.. طيب وما علاقة دراسة شخص ما لفنون العمل التلفزيوني في لندن بأمن البلاد؟ قالوا لي: بلاش فصاحة وفلسفة.. هذا هو النظام المعمول به.. وعليك ان تلزم بيتك حتى تتصل بك وزارة الإعلام لتبلغك بموافقة او اعتراض جهاز الأمن.. قلت: اللهم لا اعتراض.. ولزمت بيتي ولكنني لم أتوقف قط عن زياراتي اليومية للوزارة لمعرفة رأي جماعة الأمن في أمر سفري، وكان ذلك ضروريا لأنني لم أكن أملك هاتفا، وطفت بيوت أربعين من الجيران واكتشفت ان بعضهم لم «يسمع» بعد بالتلفون، وبعد أن يئست وتوقفت عن زيارة الوزارة، جاءني أحد الزملاء ذات صباح يبشرني بأن جهاز الأمن لم يعترض على سفري، بل كتب إلى وزارة الإعلام بالحرف الواحد عني: سبق اعتقاله تحفظيا ولكننا لم نلمس له نشاطا معاديا للحكومة منذ الإفراج عنه.. يا سلام على الناس اللي بتفهم.
دعوت الزميل الذي اتاني بالبشارة إلى فطور في مطعم فخم، كلفني قرابة العشرين قرشا، ولكنني قلت لنفسي: مش خسارة في شخص أتاني بخبر مفرح، ولتطر كل فلوسي مقابل ان أطير إلى لندن... ثم ذهبت إلى الوزارة لاستكمال إجراءات تسلم التذكرة، وفوجئت بالموظف المسؤول يقول لي: هانت.. مبروك.. أرسلنا خطاب جهاز الأمن إلى «أمانة المهنيين» في الاتحاد الاشتراكي (الحزب الذي شكله الرئيس نميري لإضفاء قشرة ديمقراطية على نظام حكمه).. ووجدت نفسي أصيح بانفعال: الله يلعن الاتحاد والوحدة العربية والاشتراكية والماسونية والزرادشتية.. هل وظيفة الحزب الحاكم ان يحكم أم أن ينشغل بسفاسف الأمور مثل أن يسافر شخص نكرة للدراسة فترة قصيرة في الخارج؟ هنا هبّ عدد من موظفي الوزارة لإسكاتي: يا ابن العم وطي صوتك وانت أصلا من أرباب السوابق.. أكيد عندك قريب أو صديق في الاتحاد الاشتراكي يمشي أمورك.. قلت لهم: والله لو كان الاتحاد الاشتراكي يوزع صكوك دخول الجنة (كما كانت تفعل كنائس أوروبا في العصر الوسيط) ما وضعت رجلي في مقرِّه).. بالتأكيد كنت أعرف أعضاء كثيرين في الاتحاد الاشتراكي، ولكن أن أدخل مبناه أو أستجدي شخصا ينتمي الى تنظيم يشرعن نظاما دكتاتوريا ليساعدني على السفر إلى لندن، كان أمرا غير وارد.. لأنه عيب.. ماذا سيقول الناس عني لو رأوني أدخل مبنى ذلك التنظيم وأنا «عامل فيها بطل ومعارض للحكومة»؟
وهكذا اقتنعت بالقسمة والنصيب، ولزمت البيت و«بطلت الشغل»، أي صرت لا أغشى مكاتب التلفزيون التعليمي حيث مقر عملي الجديد، وعلم العامة والخاصة أن «الحكومة» منعتني من السفر وصرت أستقبل وفود المعزين وكنت قبلها أستقبل وفود المهنئين، والفارق بين «الاستقبالين» هو أنني لم أقدم الى المعزين «ولا كباية موية».



jafabbas19@gmail.com