الجريدة اليومية الأولى في البحرين


عالم يتغير




جارودي: الروح المنفتحة على فضاءات الإنسانية والحقيقة

تاريخ النشر : الأحد ٢٤ يونيو ٢٠١٢

فوزية رشيد





} للمفكر والفيلسوف الفرنسي «روجيه جارودي» سحر خاص، ليس لأنه على رأس قائمة أهم المفكرين في القرن العشرين وما تلاه، ولكن لاأ طريقه الوعر في البحث عن الحقيقة، أدخله في الكثير من التحولات الفكرية والروحية، حتى استفاض به البحث ليخرجه من صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي الذي بدأ حياته به، إلى الضفاف الرحبة للإسلام التي اختتم بها تلك الحياة، وحيث ألفّ كتابا في ذلك (الإسلام دين المستقبل) متحدثا عن الشمولية الكبرى التي استوعب بها الاسلام شعوب الدنيا وحضاراتها، ليؤكدها على أصحاب أديان التوحيد الأخرى السابقة، وليدخل في جدل مع من هم على خلاف ذلك، في إطار الرحابة الدينية للإسلام، وليبحر «جارودي» في فضاءاتها الأخرى المختلفة ومن بينها التأملات الصوفية، وليعتنق الاسلام من باب البحث الفكري والجدلي والفلسفي عن الحقيقة، ولينظر إلى الجدلية التاريخية في إطار منظور الشمولية الكونية للإسلام.

} ولأن «جارودي» مفكر ومتأمل وباحث شرس عن الحقيقة، فإن عقله الكوني وروحه الانسانية الراقية، لم يكونا ليوصلاه فقط إلى ان الاسلام هو الدين الشمولي ودين المستقبل لشعوب الأرض قاطبة، وانما ليدخل في جدلية وضع الانسان في مواجهة قوى الاستعمار والامبريالية والصهيونية والأساطير المؤسسة لها، فتأملاته في كتابه (واقعية بلا ضفاف) جعلت منه محاربا ومناضلا كبيرا عن كل الحقوق الانسانية المهدرة في ظل قوى الهيمنة الجديدة على الروح الانسانية والعقل الانساني، ليسجل بذلك مواقفه المعروفة في الدفاع عن الشعوب المضطهدة في آسيا وافريقيا، وليناهض سياسة بلده، فرنسا، وليقف بكل صلابة مع الثورة الجزائرية، ومع الثورة الفلسطينية، وليجعل من تحليلاته السياسية والفلسفية فضاء واسعا للإطلالة العميقة على عذابات البشر أينما كانوا، بحثا عن انسانيتهم وكرامتهم وحرياتهم المشروعة، وليطل من فضاءات «الميتافيزيقيا» أيضا، فيرى رحلة الانسان وعذاباته من مضاميرها الروحية والكونية، الباحثة عن حقيقة الوجود، وحقيقة قوى الاستلاب في العالم منذ أن خُلِق الانسان، وحقيقة الكيفيات التي يتم بها استلاب وعيه وتطوره الروحي في اطاره الشمولي، المتصل بالعقل وبالخالق والصراع الازلي بين الخير والشر، ومن دون اجتزاءات الفلسفات الوضعية، او الاتجاهات الواقعية المغلولة والمحدودة، لذلك كانت أفكاره منذ البداية تصب في (واقعية بلا ضفاف) لأنها تبحث عن الكلي لا المحدود، وعن الطبيعة وما وراء الطبيعة، وعن الواقع أو الواقعي وما وراءه، وعن المرئي واللامرئي، وعن العقل والروح معا، وعن الرحلة الإنسانية التي تؤنسن الحياة رغم أطرها البشرية التي بإمكانها من دون الجوانب الروحية والاخلاقية والرؤية الشمولية ان تضيع في المجتزأ وفي المحدود وفي الضيق.

} لذلك لم يكن «جارودي» كمفكر أو كفيلسوف منفصلا عن الواقع أو متعاليا عليه، بل كان يعتبر النضال من أجل العدالة الانسانية هو أهم دروب البحث عن الحقيقة وعن مغزى الرحلة الانسانية في مداركها الأرقى والأسمى أو في مدارجها الروحية، ولهذا أيضا لم يكن مستغربا صدامه مع الصهيونية ومع الاستعمار ومع «الدولار الاستعماري» ومع أدوات الماسونية في العالم، وخاصة بعد موقفه الجازم مع حرية الأوطان ضد قوى الامبريالية ومع القضية الفلسطينية وثورة الشعب الفلسطيني ضد (الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية) التي استلبت واغتصبت وطنا من شعب بناء على تلك الاساطير والخرافات الاستعمارية، وحيث في كتابه ذاك شكك في «الهولوكوست» أو المحرقة النازية التي فتحت في وجهه نيران الصهيونية العالمية، بعد ان فضح مقولات التأسيس الصهيوني لكيانه مثل (اليهود شعب الله المختار، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فلسطين الارض الموعودة لليهود) وغيرها من الأكاذيب الاستعمارية.

} «جارودي» حقق في رحلته الشمولية الباحثة عن الحقيقة، الدمج بين الفلسفة والسياسة والرؤية الكونية للإنسان، والدفاع عنه وعن قضاياه، فجاءت كتاباته وتأملاته الفكرية العالية، لتفتح كوة تطل بشكل شمولي على الواقع الانساني في هذا العصر، وعلى مكابداته الروحية للتعرف على حقيقة ذاته، وعلى رحلته للربط بين الخلق والخالق، وبين الانسان والله، وليصارع كل أشكال الطواغيت الرأسمالية والطواغيت الفكرية أو الفلسفية الغربية المنبثقة عنها التي دخلت في دهاليز (المادية الضيقة) لتعلن موت الانسان، وموت الأديان، ليعلن «جارودي» في مواجهتها وبعد رحلته الطويلة في التأملات الفكرية والسياسية والفلسفية والانسانية ان «الاسلام» بشموليته هو دين المستقبل لكل البشرية، ولكل الشعوب، ان كان البحث العقلي والارتحال الفلسفي، جادين في معرفة الحقيقة والوصول إليها.

} هذا المفكر الكبير ستبقى تأملاته وارتحالاته ونضالاته ضد أعتى أدوات القهر الرأسمالية والصهيونية، باقية وتمثل منارة، لكل إنسان يكابد ليعرف حقيقة ذاته، وحقيقة وجوده اللتين حتما ستوصلانه في النهاية إلى حقيقة صلته بالله جل وعلا، ومنها وبإيمانه العميق ينطلق ليدرك الأساس الحقيقي في الرحلة الانسانية، ومحاربته السامية والمبدئية والأخلاقية لطواغيت هذا العصر وكل العصور، وتخليص عقله من أوهام التفاسير المحدودة للإنسان وللكون، فحتما هناك مقابل المحدود تنفتح ضفاف اللامحدود، وفي مواجهة المادي ينفتح أفق الميتافيزيقي والمطلق والكلي، فإن التأمت والتحمت الروح المطلقة بالعقل المادي، والوعي باللاوعي، لابد ان يلتحم البحث الروحي بالبحث في الواقع أيضا، واتخاذ الموقف الإنساني والموقف الأخلاقي من مجريات هذا العصر، وسيبقى «جارودي» رغم رحيله المؤسف نموذجا للإنسان ذي الوعي الشمولي، الذي ترك سياقات رحلة طويلة في البحث عن الحقيقة. رحمه الله.