إشارات
يونانيون وسودانيون
تاريخ النشر : الثلاثاء ٢٦ يونيو ٢٠١٢
عبدالرحيم فقيري
يعيش الشعب اليوناني المعروف عنه حبه وولعه بحياة الترف والرفاهية والبذخ، يعيش اليوم تبعات سياسات تقشفية صارمة عنيفة تمارسها الحكومة، بشكل فادح سلب ذلك الشعب كل أسباب الرفاه والتنعم، كما تعيش اليونان اليوم حالة حادة من التجاذبات على مستوى دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو التي تدرس عن كثب كل سبل وإمكانيات طرد اليونان من هذا التجمع الاقتصادي الهائل، وطردها من مظلة العملة الموحدة، لأن استمرار عضوية اليونان بات مهدِّدا بكوارث اقتصادية عاتية يمكن أن تبتلع المنظومة الأوروبية بأكملها، وهو ما أوجس الألمان خيفة، فبات المفكرون يضغطون على الساسة لالتماس سبل الخروج والانسحاب من منطقة اليورو، لأن اليونان باتت تشكلا عبئا كبيرا على الاقتصاد الأوروبي.
المعضلة الاقتصادية الواقع فيها هذا البلد وشعبه المرفه هي أن الحكومة تعاني من ديون سيادية بقيمة 355.6 مليار دولار حتى نهاية 2011، فيما يقدرها البعض اليوم بنحو 360 مليارا، وهذه الديون ارتفعت تدريجيا من 151.9 مليار دولار في 2001، بمعدلات نمو طبيعية تفضح نوعا ما خللا في مقدرة اليونانيين على إدارة ديونهم، إلى 239.3 مليار دولار في 2007، قبل أن تنفلت الأمور، وتدخل اليونان ومعظم دول الاتحاد الأوروبي مرحلة الأزمة المالية العالمية، لتقفز الديون السيادية في اليونان بوتائر جنونية إلى 263.3 مليارا في 2008، ثم إلى 299.7 في 2009، ثم إلى 329.5 مليارا في 2010، على الرغم من حزم المعالجات المالية الكبيرة التي قدمتها دول الاتحاد إلى اليونان.
وعلى الرغم من أن الدولة استطاعت بفضل الإشراف الأوروبي بعد تقديم تلك الحزم المالية على اقتصادها، استطاعت تقليص عجز موازنتها من 15.6 مليار دولار في 2009 إلى 9.1 مليارات دولار في 2011، فإن الظلال القاتمة لمستقبل اقتصادها، في ظل التلكؤ الذي بات واضحا من دول الاتحاد في طرد اليونان من المنظومة أو انسحاب بعضها منها، سوف يدفع كلا من الدين العام وعجز الموازنة بمستويات ووتائر سريعة جدا إلى مستويات فلكية.
ولكن.. وعلى الرغم من هذه الأرقام المخيفة من الديون والعجوزات التي تضع اليونان في مفترق طرق بين الانهيار والصراع من أجل البقاء، لم يحرك الشعب الذي انتهبت منه كل أسباب الرفاهية، ويتوقع في الوقت ذاته المزيد من تبعات السياسة التقشفية على مستويات معيشته وقدرته على الحياة، فإنه لم يحرك ساكنا ولم يرفع الشعارات المنادية بإسقاط النظام، ولم يلق حجرا واحدا على مؤسسة من مؤسسات النفع العام، ولم يحرق مرفقا من مرافق الدولة.
حاولت أن أعقد مقارنة بين شعب من شمال الكرة الأرضية، يتسم بكل هذا الكم من الوعي والمعرفة والجلد والصبر على المحن والكوارث الاقتصادية، على الرغم من أن الدولة ومسئوليها مسئولون مباشرة عما آلت إليه الأوضاع في اليونان وفي دول أوروبية كثيرة أهملت إهمالا واضحا التمسك بالإدارة الرشيدة للأموال العامة، وبين شعب من جنوب الكرة، ملأ الأرض ضجيجا وصخبا ما إن بدأت حكومته تطبيق أولى خطوات سياسة تقشفية فرضتها ظروف قسرية مشابهة لما تعرضت له دول العالم من هزة بعد إعلان الحكومات الغربية أنها واقعة في أزمة اقتصادية طاحنة هي الأعنف في تاريخ الأزمات المماثلة.
والواقع انني أعني مجموعة من الطلبة خرجوا قبل أسبوع في شوارع العاصمة السودانية الخرطوم، يهتفون ويطالبون بإسقاط حكومة البشير، ليس لانفصال شطرها الجنوبي عنها، وليس هناك من كارثة أكبر وقعا على الشعب من ذلك، وليس لأن الشطر المنفصل يستحوذ على نحو 75% من النفط الذي كان يشكل أكثر من 85% من الناتج الإجمالي، بل لأن حكومته تريد تطبيق تقشف بادرت بتطبيقه أولا في مؤسسات الدولة وموظفيها وكبار مسئوليها.
عقد المقارنة بين اليونان والسودان اقتصاديا، قد يبدو أمرا معقدا بعض الشيء، ولكني سوف أشير هنا إلى أن حكومة البشير التي يطالب شرذمة من طلبة الجامعات هنا وهناك بإسقاطها، تسلمت السلطة والدين الخارجي للسودان كان 11 مليار دولار، خاضت معها حربا موروثة مع الجنوب بكلفة يومية قدرت في متوسطها بمليوني دولار يوميا لنحو 18 عاما، ارتفعت خلالها الديون إلى 29.3 مليار دولار حتى 2008، لكن اتفاقية السلام الشامل ووقف الحرب وتدفق النفط، لم يسهم كله في امتصاص هذه الديون، لأن الدولة دخلت كواحدة من دول المنظومة العالمية تحت مظلة تبعات الأزمة المالية العالمية، فارتفع الدين الخارجي إلى 35 مليار دولار حتى نهاية 2011، وكان من المقرر بحسب محادثات ومفاوضات عملية الانفصال اقتسامها بين الحكومتين لتصبح حصة السودان منها 17 مليار دولار.
وهذا الرقم لا يمثل سوى مجرد فارق بين ارتفاع طبيعي في حجم الدين الخارجي بين سنة والسنة التي تليها في اليونان، فقد ارتفع ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الدين العام في اليونان بين عامي 2003 و2004 اللذين لم تمر فيهما الدولة بأي أزمات اقتصادية، بواقع 15,2 مليار دولار من 168 مليار دولار إلى 183,2 مليارا، وارتفع بين سنتي 2005 و2006 بواقع 28.8 مليارا من 195.4 مليار دولار إلى 224.2 مليارا، ثم بواقع 15.1 مليار دولار إلى 239.3 مليارا في 2007، أي قبل الدخول في أتون الأزمة المالية العالمية مباشرة.
هذه مقارنة بسيطة بين دولتين من الجنوب والشمال، وبين مستويات الوعي التي تتعامل وفقها الشعوب مع المعطيات، وبين فهم هذه الشعوب لضرورات ومبيحات المطالبة بإسقاط نظام لأسباب اقتصادية، في ظروف مشابهة بين الدولتين، تعرضت كلتاهما لهزات اقتصادية عنيفة مع تباين الظروف والأسباب، وتعرضت إحداهما لتهديدات بالطرد من منظومة اقتصادية يعول عليها شعبها الكثير للمزيد من الرفاهية التي اعتادوها، فيما تعرضت الأخرى لانفصال حقيقي سياسي واقتصادي، ومعرضة لمهددات خارجية على درجة عالية من الخطورة.. فكأن بي ولسان حال البشير يقول اليوم: أبدلوني شعبي باليونانيين أحكم العالم بأسره.
نأمة:
عجز الموازنة السودانية هذا العام لا يتعدى 1.9 مليار دولار