بعد جولة موسكو.. الملف النووي الإيراني مازال يراوح مكانه
 تاريخ النشر : الخميس ٢٨ يونيو ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
على ما يبدو أنه قدر لملف البرنامج النووي الإيراني أن يدور في حلقة مفرغة، وأن يكون مجالاً للشد والجذب بين إيران التي تصر على حقها في امتلاك تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية وفقًا لما تنص عليه معاهدة منع الانتشار النووي بما يستتبعه ذلك من حق في تخصيب اليورانيوم على أرضها، وبين الغرب الذي يتشكك في حقيقة نيات إيران من وراء تطوير قدرات نووية ويرى أن لها أهدافًا عسكرية وأنه يقودها في النهاية إلى امتلاك سلاح نووي.
ذانك الشد والجذب بين الجانبين اللذان استمرا قرابة العقد بعد أن وصلا إلى مستوى الصراع يكادان ينذران باحتمال حدوث مواجهة عسكرية أصبحت أحد الخيارات المطروحة من جانب الطرف الغربي، وتحديدًا الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، ولاسيما أن كل الجهود التي بذلت من أجل حل أزمة هذا الملف - الذي صار معقدًا ؟ من خلال الدبلوماسية والمفاوضات لم تفلح حتى الآن في إيجاد التسوية التي ترضي الطرفين.
إن ما سبق تؤكده الجولات الثلاث الأخيرة للمفاوضات التي جرت في الأشهر الثلاثة الأخيرة بين إيران ومجموعة ٥+١ (التي تضم الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن علاوة على ألمانيا) والتي كان آخرها الجولة التي استضافتها العاصمة الروسية موسكو يومي ١٨و١٩ يونيه ٢٠١٢، فالجولات الثلاث لم تفض إلى أي جديد يمكن أن يعطي انطباعًا بأن الطرفين في طريقهما للتوصل إلى اتفاق يقود لنزع فتيل الأزمة؛ فإيران بدت وكأنها مصرة على سلوك نهج كسب الوقت الذي تتبعه منذ بدأت مفاوضاتها مع الجانب الغربي قبل سنوات، وبدا الأخير هو الأخر وكأنه يؤدي ما عليه لجهة الالتزام بمبدأ التفاوض وفرض العقوبات لحين الوصول إلى حد معين يمكن أن تتبدل معه الخيارات إلى خيارات أخرى.. وهو النهج الذي يفضله الرئيس الأمريكي «أوباما»، وأكد الالتزام به في أكثر من مناسبة رغم الضغوط التي يتعرض لها من جانب إسرائيل ومنها توجيه ضربة عسكرية تجهض البرنامج الإيراني أو السماح لها بهذه المهمة.
وتعد جولة مفاوضات موسكو تحديدًا بين إيران ومجموعة ٥ +١ مهمة جدا بالنسبة إلى الجانب الإيراني لجهة توقيتها، فهي تجيء قبل أسبوعين تقريبًا من تطبيق قرار الحظر الأوروبي على النفط الإيراني بصورة كاملة في أول يوليه ٢٠١٢، كما يأتي قبل تطبيق حزمة أخرى من العقوبات الأمريكية وتطبيق هذا الحظر وتلك العقوبات سيكون له تأثيره المباشرة على الاقتصاد الإيراني؛ حيث ستتأثر كثيرًا عوائد النفط الإيراني التي تشكل أساس إيرادات الدولة.
ذلك السبب الأخير كان من المفترض أن يكون دافعًا لطهران لأن تكون أكثر مرونة غير أنها بدت أكثر إصرارًا على حقها في تخصيب اليورانيوم وعدم الاستجابة للطلب الغربي بوقف عملية التخصيب.
وتنبع أهمية جولة مفاوضات موسكو أيضًا من أنها يمكن أن تحدد مدى قناعة الغرب بجدوى التفاوض مع إيران، ولأن الجانب الإيراني، حاول أن يبدو خلالها في موقف الطرف الأكثر جدية في التفاوض وحاول أن يصور المفاوضين على أنهم الطرف الأضعف الذي لا يمتلك أي صلاحيات لاتخاذ قرار، ومن منطلق ذلك سنحاول إلقاء الضوء على نتائج هذه الجولة والجديد في مواقف الجانبين، وهو ما يتطلب التعرف على ما انتهت إليه جولتا اسطنبول (في إبريل) وبغداد (في مايو) والأهم مواقف الأطراف المعنية قبل جولة موسكو ورؤيتها لهذه الجولة وأهميتها في تحريك الأزمة.
بداية، ربما تكون النقطة الأهم في جولة اسطنبول والمتعلقة بمسار المفاوضات هي أن رئيس الوفد الإيراني في المفاوضات «سعيد جليلي» اشترط رفع العقوبات المفروضة على بلاده كشرط لمواصلة المفاوضات، وفي جولة بغداد كان واضحًا تمسك «جليلي» بحق بلاده في تخصيب اليورانيوم في حين طلبت الدول الست من إيران تسليم مخزونها من اليورانيوم المخصب حتى ٢٠% مقابل حصولها على يورانيوم مخصب يكفي لتشغيل مفاعلات سلمية للبحوث العلمية والطبية وأبدت استعدادها للتعهد بعدم اتخاذ إجراءات دولية جديدة بمواجهة المساعي الإيرانية لتطوير أسلحة دمار شامل.
واللافت في محادثات بغداد هو أن إيران رغم تأكيدها مجددًا حقها في تخصيب اليورانيوم فإنها أبدت استعدادها للبحث في مسألة التخصيب بنسبة ٢٠%، كما أنها لم تطرح شرط رفع العقوبات واتفق الجانبان على مواصلة المسار التفاوضي والعمل على تحديد جدول أعمال الجولة الثالثة بموسكو.
ومع أن إيران اتهمت مجموعة ٥+١ بالمماطلة في عقد الاجتماع التمهيدي الذي يحدد جدول أعمال جولة موسكو (وهو ما ادعت أنه يثير شكوكًا بشأن جدية مجموعة ٥+١ ومدى استعدادها لإنجاح جولة موسكو، بل اتهمت دولاً بإرغام بعض مفتشي الوكالة على تنفيذ مهام تجسس أثناء زيارتهم لمواقعها النووية)، فإن هذه الاتهامات لم تمنع من عقد اجتماع يوم ٨/٦/٢٠١٢ بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وإيران للتوصل لاتفاق إطار يتيح لمفتشي الوكالة الوصول لكل المواقع وكل الأشخاص والوثائق التي توضح طبيعة البرنامج النووي الإيراني، ويتيح دخول المفتشين لموقع «بارشين» العسكري الذي أثير أنه شهد إجراء عملية محاكاة لتفجير نووي، وحيث سعت الوكالة للحصول على أجوبة عن كل الأسئلة التي أثارها تقريرها في نوفمبر ٢٠١١، وأهمها ما إذا صنعت إيران سلاحا ذريا قبل عام .٢٠٠٣
أيضًا اتفق كبير المفاوضين الإيرانيين «سعيد جليلي» ومنسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي «كاترين آشتون» على مضمون مباحثات موسكو (١٨- ١٩/٦/٢٠١٢)، حيث أكدت «آشتون» ضرورة التزام إيران ببحث مقترحات مجموعة ٥+١ المعبرة عن قلقها حيال الطابع السلمي للبرنامج الإيراني.
وتشجيعًا لإيران وللمفاوضات أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» ان إدارة الرئيس «أوباما» ستعفي (٧) دول منها (تركيا وجنوب إفريقيا وماليزيا وكوريا الجنوبية وسريلانكا وتايوان) من تنفيذ العقوبات الاقتصادية التي تستهدف تصدير النفط الإيراني لتنضم بذلك إلى ١١ دولة أخرى أعفيت في مارس ٢٠١٢ من الالتزام بالعقوبات.
والجديد في هذه المرحلة هو بروز ما يعرف بسياسة الخطوة مقابل خطوة، وهي السياسة التي تعني التحرك التدريجي على طريق الحل والتسوية باتخاذ خطوة على طريق تخفيف العقوبات مقابل كل خطوة تخطوها إيران على طريق الاستجابة لمطالب مجموعة ٥+١، ولاسيما قضية التخصيب.. وكمؤشر على سياسة خطوة مقابل خطوة أعلنت الخارجية الروسية أن مفاوضات موسكو لن تحل كل القضايا الخلافية وأن عملية التفاوض يجب أن تستمر بجولات أخرى وستتحرك روسيا بدورها لإقناع إيران بمراجعة مواقفها والمساعدة على إنجاح سياسة خطوة مقابل خطوة، وخاصة أنها تتعرض لضغوط غربية لاستخدام علاقاتها القوية مع طهران لدفعها لتبديد المخاوف الدولية من عسكرية برنامجها النووي.
بيد أن نجاح سياسة الخطوة خطوة يتوقف على عدة أمور:
الأول - تحقيق التوافق بين إيران ومجموعة ٥+١ على طبيعة الخطوات المتبادلة، فالجولات السابقة أدت التفاصيل إلى تعثرها وعدم تحقيق أهدافها، رغم أن تحقيق التوافق قد يستغرق وقتًا طويلاً.
الثاني - طبيعة الضغوط التي يمكن أن تمارسها روسيا والصين على إيران حتى تبدي مرونة في المفاوضات إذ يتوقف على هذه الضغوط - بحسب بعض المحللين - مستقبل المفاوضات بالنظر إلى علاقة طهران وموسكو وبكين.
الثالث - مدى استعداد إيران لإيجاد تسوية للأزمة في الفترة المقبلة، وهو أمر مرهون بتوافق داخلي إيراني على مضمون التسوية، وحيث كان تباين المواقف الداخلية سببا مهما لتعثر الحل.
ولو جئنا لمباحثات موسكو نفسها سنجد أن إيران دخلتها وهي مصرة على موقفها في الجولات السابقة لجهة التمسك ببرنامج تخصيب اليورانيوم وفي المقابل تطالب دول ٥+١ إيران بوقف التخصيب بنسبة ٢٠% ومبادلة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠% بوقود نووي هي بحاجة إليه، وقد وصف «علي لإريجاني» رئيس مجلس الشورى الإيراني مباحثات موسكو بأنها حرب إرادات وأبدى عدم تفاؤله بما ينتج عنها؛ لأنه يرى أن الدول الغربية غير جادة بسبب طريقة تعامل الدول المتحاورة أثناء محادثات بغداد، وعدم عقد اجتماعات تحضيرية لاجتماع موسكو، فضلاً عن عدم امتلاك المفاوضين الغربيين صلاحيات تقديم مقترحات جادة، وعلى الجانب الآخر فإن المسؤولين الروس المستضيفين للجولة تجنبوا إبداء ثقة بإمكان تحقيق اختراق جدي في مباحثات موسكو، واعترفوا بأن تقريب وجهات النظر والخروج بنتائج ملموسة مهمة صعبة ووصفوا مواصلة اللقاءات والحوار بأنها تعد إنجازًا في حد ذاتها، لافتين إلى محاولة موسكو إقناع طهران بأهمية تحقيق تقدم ملموس في هذه الجولة و«تعويلها» على الحصول على إعلان صريح منها بالالتزام بتجميد تخصيب اليورانيوم بنسبة ٢٠% مقابل حصول إيران على اعتراف صريح بالطابع السلمي لبرنامجها النووي، الأمر الذي يبعد نهائيٌّا الخيار العسكري.
ولقد كشفت المحادثات التي استغرقت يومين (١٨و١٩/٦/٢٠١٢) عن عدم حدوث تغير جدي بشأن الملف الإيراني، حيث فشلت مجموعة ٥+١ في حمل إيران على تقديم تنازل حول برنامجها النووي، فالأخيرة طلبت تخفيف العقوبات المفروضة عليها واعترافًا بحقها في التخصيب بنسبة ٢٠% في حين عادت الدول الست للمطالبة بتجميد إيران التخصيب بنسبة ٢٠%، وأن تخرج من أراضيها ما لديها من مخزون يورانيوم مخصب، فضلاً عن إغلاق منشأة فوردو للتخصيب قرب «قم».
ولقد اعترفت «كاترين آشتون» بوجود فجوة جوهرية بين مواقف الطرفين في ضوء تمسك كل طرف بموقفه، وكل ما خرج به الاجتماع هو الاتفاق على عقد اجتماع بين الجانبين للمتابعة الفنية في اسطنبول في ٣/٧/٢٠١٢ وهو الاجتماع الذي تأمل إيران أن يتم الاتفاق بعده على جولة محادثات سياسية جديدة.
وفي الوقت الذي تبدي إيران تصلبًا في موقفها من مسألة التخصيب وتعلن صراحة رفضها قرارات مجلس الأمن ولا تعتبرها ركيزة للمفاوضات وتتمسك بحقها وفقًا لمعاهدة منع الانتشار النووي، فإنها تحاول أن تحمل مجموعة ٥+١ مسؤولية فشل هذه الجولة بدعوى أن الغرب ليس جادا في المفاوضات، وأن المفاوضين الغربيين لم تكن لديهم صلاحيات كاملة لاتخاذ قرار، واكتفوا بتقديم إجابات مقتضبة في حين كانت إيران ؟ بحسب قولها؟ جادة في هذه الجولة ومستعدة لتدابير بناءة للخروج من الأزمة.
وإذا كانت جولة موسكو كسابقاتها لم تفض إلى شيء.. فإن السؤال الذي يطرح نفسه إلى متى ستظل المفاوضات بين إيران والغرب تدور في حلقة مفرغة.. وما جدواها مادام كل طرف متمسكا بموقفه؟
ربما تكون الولايات المتحدة وإسرائيل معنيتين بهذا السؤال أكثر، فالاثنتان لن تقبلا بطبيعة الحال استمرار الوضع إلى ما لا نهاية وأن هناك قناعة لدى البلدين بأن إيران تحاول كسب الوقت حتى تحقق هدفها من وراء برنامجها النووي (وهو الوصول إلى القنبلة النووية).. ومن هنا، كان إصرار إسرائيل على عدم تقديم تنازلات لإيران والتمسك بمطالبها الخاصة بوقف تخصيب اليورانيوم في إيران وتفكيك منشأة «قم» النووية، وكذلك فرض رقابة دائمة على المنشآت النووية الأخرى.. هذا غير رفضها سياسة الخطوة مقابل خطوة.. ووصل الأمر إلى قيام سيئ الذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو» باتهام مجموعة ٥+١ بخفض سقف مطالبها في محادثاتها مع إيران بغية الحصول على نتائج بأي ثمن.
وعلى الجانب الأمريكي فرغم تفضيل الرئيس الأمريكي المسار التفاوضي وانشغاله في الوقت الراهن بمعركة انتخابات الرئاسة القادمة ؟ وهو ما يعني اطمئنان إيران إلى غياب فكرة الخيار العسكري حتى نوفمبر القادم ؟ ورغم أن قانون موازنة وزارة الدفاع لا يتضمن أي شيء يمثل موافقة على استخدام القوة ضد إيران، فإن مجلس النواب أصدر قانونًا يقضي بأن المصلحة الحيوية للولايات المتحدة هي منع إيران من امتلاك سلاح نووي، ويطلب هذا القانون من إيران وقف كل أعمال التخصيب وتعاونها الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية فضلاً عن عقد اتفاق للتأكد من سلمية برنامجها النووي كاملاً.
وإذا كانت إدارة الرئيس «أوباما» تفصل الخيار الدبلوماسي إلى جانب خيار العقوبات، فإن طهران لا ينبغي أن تعول كثيرًا على هذا الأمر، لأن هذه الإدارة لن تقبل الاستمرار في مفاوضات لا طائل وراءها، فضلاً عن أنها تتعرض لضغوط شديدة من جانب إسرائيل والمؤيدين لها في الكونجرس للجوء إلى الخيار العسكري، باعتبار أن الدبلوماسية والعقوبات فشلتا في جعل إيران تتجاوب مع المطالب الدولية، ويكفي الإشارة هنا إلى تصريح «دان شابيرو» سفير الولايات المتحدة بإسرائيل الذي كان أحد مؤيدي الأخيرة البارزين داخل الكونجرس والذي أعلن فيه أن «استعدادات الولايات المتحدة لمهاجمة إيران قد اكتملت»، وذلك للقول ان أسلوب إيران في التعامل مع أزمتها النووية يحتاج إلى مراجعة وإعمال منطق العقل لأن العواقب يتحملها الشعب الإيراني، فضلاً عن التداعيات الخطرة والمأساوية التي يمكن أن تعود على المنطقة في حالة حدوث مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة أو إسرائيل بسبب برنامجها النووي.
.