مقالات
محنة القراءة والكتابة
تاريخ النشر : الخميس ٢٨ يونيو ٢٠١٢
حين كتب سارتر كتابه (ما الأدب..؟) ابتدأه بقلق السؤال الأكثر حضوراً وغياباً في الوقت ذاته، ما هي الكتابة؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟.. أسئلة مستحضرة في اللاوعي لدى الكثير منا، وقلما نجد من رد عمله الكتابي إلى دلالتها ومغزاها وجودة معنى إجابتها. ولعلني أكتب في فعل الكتابة لما يقترفه هذا العالم الواقعي والافتراضي على حد سواء من الكتابة كيفما اتفق، حتى غدت الكتابة صنعة من لا صنعة له، وهي في مقام الاعتبار الأسنى والأجل مكانة، وقد خصها علماؤنا الكبار في عصور ازدهار ثقافتنا العربية الإسلامية بأهمية بالغة، وألفوا فيها المؤلفات وكتبوا فيها المخطوطات والكتب، وربما تكفينا الإشارة إلى كتاب (الصناعتين الكتابة والشعر) لأبي هلال العسكري، وكتاب (الخرج وصناعة الكتابة) لقدامة بن جعفر، وكتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشاء) للقلقشندي، وغيرها من الكتب التي بحثت في الكتابة وفنونها وأهدافها وغاياتها ومكانتها وقيمتها الحضارية.
وبالنظر في المسافة بين الأمس واليوم ثمة ما يدهش ويبعث على القلق والتوجس من محتويات هذا العالم الافتراضي الرقمي، إذ فتحت الثورة الرقمية وعالم الفيس بوك وتويتر المجال أمام الصغير والكبير والكاتب والحاطب ليخط ما يشاء مما يشاء من معانٍ بعضها جيد لكن أكثرها رديء ومغرق في الرداءة.
لقد كانت الكتابة من أشرف الصنائع وأعلاها مكانة، وأسماها منزلة، فهي -بحسب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة- ثاني رتبة في الدلالة اللغوية، وهي صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يتميز بها، وهي -بحسب الباحث الجزائري الكبير البروفيسور عبدالملك مرتاض- جمال مذاب على قرطاس، وسر متدفق على صفحة ورق، وعالم صامت، وفضاء عجائبي تفك رموزه ومغاليقه بفعل القراءة الواعية الجيدة الخبيرة المتسلحة بأدوات منهجية مضبوطة، وبين هذين التعريفين اختلطت أفكارنا وتصوراتنا حول الكتابة، وأمكننا تقدم العصر وآلاته وتقنياته من أن نهتم بالكم على حساب الكيف في كل شيء، والكتابة بعض هذه الأشياء،حتى وصلنا إلى مرحلة من الهشاشة والرداءة والضحالة ما فيها، ومع قلة عدد القراء لدينا، فإن القارئ أصبح يحار فيما يقرأ من أطنان الحبر الافتراضي المنقوش على أجهزة الحواسيب.
لقد أجرى أحد الباحثين دراسة مسحية لأعداد الكتَّاب (أو مدعي الكتابة) في عالمنا العربي، فوجد أن الرقم من دون تحديد مباشر فاق الملايين، بالنظر إلى عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي التي تحولت في معظمها إلى صفحات جرائد صفراء، عدا كتبة المواقع الإعلامية التي تلصق وصف الكاتب بأي اسم من الأسماء بغية أن تسوق نفسها وتعبئ مساحتها بالغث أو السمين، لا فرق، ما دام المتلقي أو القارئ ليس في حساباتنا ولا يعنينا منه سوى عدده. وهذا أمر فيه من الخطورة ما يصيب بالتوجس والقلق على مصير الثقافة العربية عموما، وذلك بالنظر إلى ضحالة ما ينشر من كتابات أدت بالنتيجة إلى المساهمة في تردي ذائقة القارئ العربي، هذا إذا جازفنا بالقول بأن ثمة قارئ عربي بالمعنى الحقيقي، حيث كشفت بعض الدراسات عن أن الفرد العربي يقرأ بما معدله نصف صفحة سنوياً، مقابل ثمانية كتب يقرؤها الفرد الأوروبي، ولست ممن يشكك في هذه النسبة، إذ إنني أنظر إلى الموضوع من زاوية المعنى العام، وليس من زاوية العدد المجرد، حيث الدلالة تؤشر بوضوح إلى محنة عالمنا العربي في مجال القراءة، وزاد عليها هذا العالم الافتراضي محنة الكتابة أيضا.
الثقافة العربية في ثوبها المعاصر أخذت مكانتها بجدارة بين هاتين المحنتين، ولا تحسد اليوم على هذا المقام، فهو مقام الضعف في حين أن الثقافة والمعرفة هي رهان قوة الغرب، وبالعودة إلى استشهادنا الأول يعتبر سارتر أن للقراءة والكتابة مرجعية وشرطا لا يتحققان إلا بها، إذ إن حرية الكتابة والقراءة مرتبطة أيضا بالمسؤولية تجاه ما نكتب أو نقرأ.. بمعنى أن كتابتنا تحمل مسؤولية تجاه القارئ، ألا نزوده إلا بما هو مهم وعلى سوية من الصياغة والمعنى، وما يجعلنا ملزمين بهذا هو احترامنا لكتابتنا ولذاتنا أولا، واحترامنا لعقل القارئ ثانياً، واختم بما قاله الناقد الفرنسي الشهير (رولان بارت) من حيث إن الكتابة والقراءة وجهان لعملة واحدة، الكتابة نداء والقراءة تلبي هذا النداء، علينا إذن أن نعيد تقييمنا لفعلي الكتابة والقراءة، فليس من السوي أن يكونا مجرد حالة استهلاكية كأية قيمة أخرى.