الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي

المكان في المخيلة الروائية العربية: طللٌ أم بطلٌ أصيل؟

إبراهيم عبدالمجيد: أرفض إحالة المكان في الرواية إلى وطن

تاريخ النشر : السبت ٣٠ يونيو ٢٠١٢



القاهرة: حازم خالد
لم يحظ «المكان» في الأدب العربي بما حظيت به عناصر الأعمال الإبداعية الكتابية الأخرى من دراسات ورؤى نقدية، لقد ظل المكان «معتما» على الرغم من أنه يكاد أن يكون قاسما مشتركا أعظم في كل عمل إبداعي كتابي.
ورغم أن «المكان» قد يكون البطل المطلق في بعض الروايات والقصص، وتبرز خصوصيته و»عبقريته« في أعمال روائية كثيرة، فالمكان هو بطل علي جواد أدهم في روايات: »زقاق المدق، خان الخليلي« عند نجيب محفوظ، وفي »البلدة الأخرى« لإبراهيم عبدالحميد، و»ثلة الملائكة« لسعيد الكفراوي، و»قهوة المواردي« لمحمد جلال.
في بعض الأحيان قد يكون »المكان الإبداعي« مجرد عامل مساعد، لكنه يحتفظ بأهميته وجوهريته في جعل العمل الإبداعي يأخذ أبعاده كاملة، فلا ابداع خارج المكان، فماذا قال المبدعون والنقاد عن »الأمكنة« في إبداعاتهم؟
نقيض المكان
هناك نظرة نقدية تقول ان الرواية العربية قامت على شقي »الحدث والفاعل«، وهناك دائماً شخص يفعل وحدث يقع، لذا جاءت تسميات المكان مواكبة لهذه النظرة النقدية مثلما هو الحال في »بين القصرين« أو «زقاق المدق»، ما يعني أن »المكان« حضور رغم أنف هذه النظرة النقدية.
والأحداث التي تقع على مسرح ـ مكان ـ »بين القصرين« لو أنها نقلت إلى مكان آخر فلن تصبح هي ذاتها، وقد يتغير سلوك فاعليها ولو كانوا الشخوص ذاتهم، سيظل »السيد« و»الزوجة« هما ذاتهما، لكن ردود أفعالهما ستختلف تبعاً لاختلاف المسرح، ليمكن القول إن المكان هو ذلك العنوان المشار اليه.
بتطور «فن القص» احتل المكان مكانه في نسيج العمل الإبداعي، ودخل بعنف في تكوين السياق العام للنص، فحينما تشرق الشمس يجب أن تشرق - بشكل خاص - على هذا المكان، نحن لم نخترعه، لكن هناك من وصل إليه قبلنا وصلوا في »جسر على نهر درينا« للروائي اليوغوسلافي «آيفو أندريتش»، و«أمسيات قرب قرية ديكانكا» لنيكولاي غوغول.
أما في الأدب العربي الحديث، فقد كان المكان بطلاً، ولكنك تستطيع فصله نقديا عن الأحداث وهي في سريانها، وتأكد دوره من خلال تضافره مع الحدث والمشاركة في صياغته، فسيدنا «نوح» من دون السفينة لن تكتمل العبرة من قصته، وسيفقد »معجزته«، لكن نار سيدنا »إبراهيم« يمكن أن تضرم عليه في أي مكان آخر لأن طبيعة معجزة سيدنا إبراهيم أنها تكتمل بدون مكان و«بدون تحديده» لكنها لن تكتمل بلا نار، يعني أن هناك أماكن تكتسب خصوصيتها من خصوصيات الحدث فرواية »فساد الأمكنة« لصبري موسى بطلها المكان، حيث انك لو خلعت الحدث من هذا المكان لفقد فاعليته، وهي عمل جيد يطرح خصوصية المكان وكذلك رواية محمد مستجاب »ديروط الشريف«.
مصرع المكان في التراث
يدعو الناقد د. مدحت الجيار إلى الاتفاق على تلازم المكان والزمان، وأنه لا زمان بلا مكان، فالزمان هو قرية المكان، وعلى مستوى الإبداع كل زمان يتحرك فيه شخص ما في مكان ما، إذًا فالمكان شرط إبداعي، ولكنه في بعض الأحيان يتحول المكان إلى بطل ونموذج ونمط، وإلا فلماذا يسمي نجيب محفوظ »زقاق المدق، خان الخليلي، بين القصرين«؟ لأن هذه الأماكن هي بطل يقف في مواجهة التحديات الجديدة، لذا فإن التنبه للمكان يعني في جوهره التنبه للزمان ولعل من بين الأعمال التي تتمتع بخصوصية شديدة في أماكنها »فساد الأمكنة« لصبري موسى، و»عطفة خوخة، قهوة المواردي« لمحمد جلال و»مالك الحزين« لإبراهيم أصلان، و»ديروط الشريف« لمحمد مستجاب.
مكان المنسي
يقول الروائي محمد المنسي قنديل: «أومن دائما بأن الأدب الجيد له جغرافيا جيدة، وما لم تستطع أن تعرف المكان الذي ستدور فيه روايتك، فلن تستطيع أن تعرف حدود شخصياتك، ذلك أن الإنسان يتشكل بالبيئة المحيطة به، وليس بالضرورة أن يكون المكان الموجود في العمل الفني هو ذلك الموجود في الواقع، فالقاهرة في أدب نجيب محفوظ قاهرة مليئة بالضباب، والحواري فيها معتمة، مليئة بأشخاص غير موجودين حاليا، مثل الفتوات والحرافيش والدراويش، فهي شيء مختلف تماما عن القاهرة التي تسطع فيها الشمس كل يوم، والتي تجدها في الواقع».
ويضيف قنديل أنه يعتقد أن قاهرة نجيب محفوظ أكثر واقعية، ما يدل على القيمة الفنية للمكان، وكيف يمكن أن تفوق قيمته المتخيلة القيمة الواقعية له، ومنذ أن كتب الكاتب الإنجليزي سونيت «جيلفر في بلاد الأقزام»، أدرك كل كاتب أنه يجب أن يكون له عالمه الخاص به، وأن عليه أن يضع حدودا لهذا العالم وهذه الأرض، لأن كل أديب مطالب بأن ينشئ مدينته الخاص، وبدون المكان فإن الأحداث تدور في فراغ متعمد.
وأنه يعتقد أنه اهتم جدا بالمكان في روايتيه «انكسار الروح»، ورسم ملامح مدينته الخاصة، ولم ينته به الأمر إلا وقد رسم حدود مدينة كاملة كما رسمها «وليم فولكنر» في أعماله.
سعادة مكانية
أما الروائي يوسف القعيد فيقول: »ما إن أبدأ القراءة وأكتشف أن المكان غير محدد، أو افتراضي، حتى تقل سعادتي إلى النصف، لأنني أعتقد أن النص الروائي يقدم بشرا يتحركون في زمان معلوم ومكان محدد، وأن الخروج عن أحد هذين العنصرين يفقد النص الروائي ركيزة أساسية، وهناك روائي قليل الإنتاج ضخم التأثير تكمن فرادته في علاقته بالمكان وهو »إيفو أندريت« الذي قرأنا له »جسر على نهر درينا« و»وقائع مدينة تراباك«.
ويضيف القعيد: ان ما جعل أدب »نجيب محفوظ« جزءا أساسيا من وجدان المصريين هو طبيعة علاقة إبداعاته بالمكان، وأنه على الرغم من قدومه من بيئة ريفية »قرية الضاهرية« مركز إتاي البارود بالبحيرة بمصر، فانه في أكثر من عمل سمى الأماكن أسماءها، لأنه يعتبر الدوران حول فكرتي الزمان والمكان نوعا من الهروب.
ويواصل: لقد تطلعت إلى رسم ما أسميه «جمهوريتي الخاصة»، سواء من قصة «البيات الشتوي» أو من خلال أعمال أخرى، إن ما كتب عن المكان نادر إلى أن جاء «غالب هلسا» بعد سنوات طويلة، وترجم كتاب غاستون باشلار »جماليات المكان« وألان روب غرييه في «نحو رواية جديدة».