الثقافي
فنانة وقفت على باب التقوى في بروكسل
تاريخ النشر : السبت ٣٠ يونيو ٢٠١٢
تعمل الفنانة د. حفيظة لعمارتي على جعل لوحاتها تزدان دائما بمساحة واسعة من الألوان الكابية، فهي تحرص على نقل المشاعر الإنسانية المضطربة، والكوابيس التي تمر في أذهان البحارة، وهم يستعيدون ما مر بهم في رحلاتهم من عواصف وأخطار، ولوحاتها عبر معارضها الكثيرة في دول العالم المختلفة في المغرب وبلجيكا وغيرهما من الدول الأوروبية، وقد تخصصت برسم المراكب المتوسطة والسفن الصغيرة، التي تكون عادة عرضة للغرق عند مواجهة أي خطر محتمل، هي وبحارتها، الذين يكافحون من أجل لقمة العيش، والتمتع أيضا بما خلق الله تعالى من بحر واسع، وسماء مفتوحة، وأسراب نوارس تطير في سماء مستقرة وأنواء جوية طيبة، وما يتيحه البحر من حرية التفكير والتأمل بعيدا عن ضغوط الحياة ومثبطاتها.
درست الفنانة حفيظة بالأكاديمية الملكية للفنون ببروكسل، وتخرجت فيها قبل أكثر من خمسة عشر عاما، ولم تكتف بذلك بل انتقلت إلى جامعة مونس لتدرس علم نفس المراهقين وتخرجت فيها، وقد حصلت على أعلى معدلات النجاح فيها، وبالرغم من ارتداء الفنانة للحجاب الإسلامي، فإنها تنال احتراما كبيرا بين شرائح واسعة من المجتمع البلجيكي، وهي معروفة في وسط الفنانين البلجيكيين، ويعجبون كثيرا بعوالمها البحرية، وضربات فرشاتها المميزة التي تحيلهم دائما إلى عوالم الفنتازيا، وعوالم فطرية، ومعاناة الإنسان مع القوى الخارقة كالبحر والرياح العاصفة، وبعض المثقفين البلجيكيين ينعتها بـ »الفنانة الكبيرة« أو »فنانة البحر المحجبة« وهي المعروفة لديهم أيضا بالفنانة التي تبني بين ما تؤمن به كمسلمة، والديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية جسور صداقة ومحبة، وفهم مشترك لما يعانيه الإنسان في وقته الحاضر في أصقاع كثيرة من العالم من الجوع والمرض والظلم الاجتماعي، وقلة الفرص في الحصول على فرص العيش الكريم في عالم تسوده الأزمات والحروب، وشريعة الغاب، والأقوى الذي يغلب دائما، ويحيا على حساب الآخرين المقموعين بالفقر والجهل والحاجة والمرض.
تقول عبر مراسلة خاصة معها عن هذا الجسر الذي تمده بينها، وبين الآخر المختلف عنها دينيا واجتماعيا عبر معارضها العديدة في المغرب وأوروبا »نعم صحيح اختلفت مواضيع الفنانين، لكن ظلت التقنية التي تعكسها هي كفنانة، هي نفسها المختلفة، إذ يمكن للمتلقي أن يلاحظ بعض التغيير في كل عمل لي إلا أن كل عمل يختلف عن الآخر، وذلك حسب الحالة النفسية للفنان، المتابعون لي يتعرفون عملي من خلال التقنية التي أشتغل عليها إذ تظل هي العاكسة لاسمي، فعندما نقف أمام لوحات أخفيت تواقيع أصحابها، حتما ستقول هذا ضياء العزاوي، هذا صفوان الداهول، هذا صادق طعمة، هذا محمد القاسمي، هذا جبر علوان... التقنية هي بصمة الفنان التي يعرفه الجمهور من خلالها«.
وبالفعل فالباخرة القديمة، المتداعية بفعل الزمن، أو الزورق الصغير المدهون بعدة أنواع من الصباغة، الذي يبدو كأنه يوشك على الغرق، والسماء الالمنيومية الملبدة بالغيوم، التي تجعلك تنتظر فاجعة بحرية ستقع لما في ذلك التلبد الطقسي من نذر عاصفة مرعبة قادمة، وذلك الفقر المدقع الذي توحي به تلك المراكب وصواريها العارية ستنقلك حتما إضافة إلى ضربات الفرشاة القوية واصرار الفنانة على نقل الاحساس بالفجيعة، والفقد إلى الفنانة حفيظة لعمارتي، فبصمتها واضحة بين جميع فناني بلجيكا وأوروبا والمغرب، والفنانة التي صارت جزءا من العالم الذي تعيشه، والتي فرضت فيه نفسها كفنانة لها بصمتها الخاصة، ورؤاها الفنية المختلفة، لديها أفكار كثيرة عن هذا التنوع الديني والفكري والرؤيوي، الذي تعيش بصحبته كل يوم في بلجيكا، فهي تقول عنه »المفكر والفنان، بل المثقف عموما يوفق في مد الجسر بينه، وبين الآخرين بوسائل أو طرائق مختلفة، تجعل الرسالة تصل إلى المتلقي هذا أولا وثانيا في زمن اختلطت فيه المعايير، وأصبح المسلم إرهابيا في نظر البعض من الغرب، وعلي في هذه الحالة أن أصحح الخطأ، أحاول أن أجعل المسافة بيني وبين الآخر الغربي لا يحكمها التباعد، الفرشاة هي وسيلتي لتحقيق هذه المآرب، رسالة الفرشاة تكون قوية ونافذة، لأنها تجسد البعد الثقافي الفني، والقاسم المشترك بين التجربة الفنية الثقافية، ولا يمكن أن تنعت بأنها إرهابية، رغم أن بعض الفنانين الغربيين حاولوا أن يستعملوا فرشاتهم للنيل من الدين الإسلامي ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
للأسف ان الفنانين العرب لم يقوموا بدورهم التاريخي، على الأقل يوصلون رسالة إلى الغرب مؤداها أن الدين الإسلامي يطلب منا احترام كل الرسائل السماوية، وكل الأنبياء، ماذا لو اجتمع الفنانون وقالوا إن فرشاتنا غير عاجزة عن الرد عما تقومون به، ولكن ديننا يرفض ذلك؟ أليس هذا دور الفنانين بل وزارات الثقافة بالعالم العربي«.
والفنانة التي تعرف انها تعيش في بلد آخر صار وطنا ثانيا لها، وتعرف ان له حقوقا عليها، فقد اواها وعلمها واحترم تدينها، واحترم اختلافها عن معظم من يعيش فيه، في رؤاها وأساليب حياتها فهي تقول عن حقوق الآخر عليها »وبصفتي فنانة معروفة هنا فهذا وطني الثاني، الذي اخترته، وانطلاقا من مبادئي لا يمكنني أن أخضع فرشاتي للنزوات السياسية البغيضة، الفن وسيلة تقريب المسافات بين الناس، بين آحاد الفكر والفن والثقافات عموما، وليس بناء الجدران للتفرقة، هذا ما نذرت نفسي له، أحترم موسى وأومن به نبيا، ولا عداء أكنه للمعتقد اليهودي، وأحب عيسى عليه السلام، وقد انتهيت إلى محمد »صلى الله عليه وسلم«، فأين هو العداء بيني وبين معتقدات الناس؟... أتذكر قول الله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم« أريد أن أقف على باب التقوى، ومن ثمة وهبت جانبا من وقتي للأعمال الاجتماعية الخيرية هنا ببروكسل».
اشتغلت الفنانة د. حفيظة لعمارتي على طوابع بريدية جمعت بين المغرب وبلجيكا في السنوات الماضية، وهي الآن تشارك جمعية »ملتقى الفن« المغربية لاستعادة ذكرى »جاك بريل« مطرب الموانئ والبحارة الفقراء تحت عنوان: »من هنا مر يوما جاك بريل« وهي بهذه المشاركة ربطت بين الصوت المبدع والفرشاة، فعالم البحر مشترك لدى المطرب المعروف والشاعر جاك بريل، وأيضا كمشهد رئيسي في لوحاتها، أن لهما عالما مشتركا صنعه عالم البحر والبحارة ومغامرات المغامرين من أجل لقمة العيش، والتوحد مع قوى الطبيعة، واقترابا من الله تعالى خالق الموجودات، فكم سيكون الإنسان قريبا حين يواجه الموت على ظهر مركب متداع في بؤرة عاصفة هوجاء تحمل البحر على الهيجان فتصير أمواجه كالجبال، ويصير أفق السماء مظلما، وتدلهم الخطوب، وتبلغ قلوب البحارة الحناجر.
وأنا أتابع أعمالها هذه التي تطلبت منها بحثا في الآثار المتبقية من جاك بريل والأمكنة، التي عاش فيها من أمستردام، حتى طنجة التي كان يحبها، ويسافر إليها كثيرا، وقد سألتها: لماذا لم تتم الإشارة إلى بعض ملامح جاك بريل الشخصية في لوحاتك التي أعددتها لهذا المعرض؟.. فكان جوابها: »لي طريقتي التي أعكس بها فكر الآخر شرط ألا تذوب فيه«، هي حقا فنانة وقفت على باب التقوى في بروكسل، وكان فنها مفتاح هذا الباب.