من مفكرة سفير عربي في اليابان
«الربيع العربي» ومعضلة البطالة
 تاريخ النشر : الأحد ١ يوليو ٢٠١٢
بقلم: د.خليل حسن *
كتب الأستاذ أنور عبدالرحمن في صحيفة «أخبار الخليج» مقالا رائعا بعنوان، خطاب مفتوح للرئيس محمد مرسي، في السادس والعشرين من شهر يونيو، يناقش فيه التحديات القادمة التي ستواجهها مصر والوطن العربي، ودور مصرنا العربية مع رئيسها المنتخب في المرحلة القادمة من تاريخنا، وقد أنهى خطابه بالقول: «إن اسمك (محمد مرسي) أصبح مقترنا بمصر الحقبة الجديدة، مصر الأمل، مصر التي تستطيع أن تؤسس قاعدة ديمقراطية ونموذجا يمكن أن تسترشد به بقية الدول العربية والإسلامية. فإن نجحت يا سيادة الرئيس، فسوف يسجل التاريخ أن فترة رئاستك كانت نقطة تحول ليست في مصر فقط، ولكن أيضا في كلا العالمين العربي والإسلامي، بتغير نمط الحكم ونهج إدارة دفة مقاليد الدولة. وإن لم تكلل تجربتك بالنجاح، لا قدر الله، فسيكون ذلك بمثابة فشل ذريع للعقل العربي والإسلامي، أي أنه سيكون هناك حكم تاريخي بأن الديمقراطية لا تنجح أو لا تصلح للشعوب العربية والإسلامية، وهذه تهمة مازال يرددها بعض أعداء الأمة، وعليكم يا سيادة الرئيس تقع مسئولية تبرئة أمتنا من تلك التهمة. واسمح لي يا سيادة الرئيس أن أنهي رسالتي هذه إليكم بتأكيد حقيقة مصر الحضارة والألفة والتآخي، بما قاله الزعيم السياسي المصري الوفدي القبطي الأستاذ مكرم عبيد: أنا كمصري، مسيحي في ديني، مسلم في وطني. وختاما، نتمنى لكم يا سيادة الرئيس أن تقودوا مصر إلى عصر تكون فيه المآذن والكنائس في تآلفها رمزا للوحدة الوطنية». ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: أين سيبرز سر نجاح التجربة المصرية الجديدة برئيسها المنتخب؟ وهل يحتاج ذلك إلى إيجاد مجتمع متناغم، وبمواطن مصري متعلم ومدرب ومبدع ومنتج ومخلص في عمله؟ وكيف ستتعامل التجربة المصرية مع معضلة البطالة؟ وهل ستحولها إلى بطالة مقنعة بزيادة موظفي الحكومة أم إلى عمالة منتجة بقطاع خاص متطور ومتعاون مع القطاع العام بتناغم؟ وكيف ستوفر الدولة قطاعا صناعيا متقدما يستطيع أن يستفيد من القوى البشرية المنتجة بجدارة وإتقان؟ وهل ستلعب القوى البشرية، التي ستتجاوز الثمانين مليونا، دورها في تطوير المجتمع المصري واقتصاده؟ وهل ستستفيد التجربة المصرية من خبرة رسول الهدى في التجارة، لحض الشباب ومساعدتهم على تأسيس شركاتهم الخدمية والصناعية الخاصة الصغيرة؟
لن تكون التجربة المصرية الجديدة مهمة فقط لجمهورية مصر العربية بل أيضا لتحديات البطالة في وطننا العربي الكبير، الذي سيصل عدد سكانه لنحو٣٥٠ مليونا، ومن المتوقع أن يحتاج إلى ٨٠ مليون فرصة عمل، خلال العقود القليلة القادمة، التي سيكون للتعليم دورا مهما في تهيئة أجياله القادمة. وقد نستطيع أن نستفيد من التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية في تطوير الصناعة وخفض نسب البطالة. فقد عانت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مشكلة الفقر والبطالة، واستطاعت بالتعليم والتدريب، وتطوير قطاعها الصناعي والخدمي الخاص، وتشجيع شبابها على العمل الحر، لتوفير فرص العمل لمواطنيها، فنما اقتصادها خلال عقود قليلة لتصبح قوة اقتصادية عظمى. وتخرج اليابان نصف مليون طالب سنويا، ويفضل شبابها العمل بالشركات الخاصة والأعمال الحرة، وأمنية كل واحد منهم تأسيس شركته المبتدئة الصغيرة الخاصة لمساعدة تنمية بلاده. ويوجد في اليابان ما يقارب الستة ملايين شركة خاصة صغيرة ومتوسطة، في بلد يبلغ سكانه ١٢٧ مليونا، مع بعض هذه الشركات مصانع تكنولوجية صغيرة في البيوت.
وقد ناقش الاقتصادي الياباني الأصل، والأمريكي الجنسية، روبرت كيوساكي، في كتابه، الأب الفقير والأب الغني، أحد تحديات التعليم في القرن الماضي، هو افتقاره إلى مناقشة ثقافة التعامل مع المال، والإبداع في العمل الحر، بل كان يركز اهتمامه على تشجيع العمل الوظيفي، وقد علقت زميلته المشاركة في تأليف الكتاب، شارون لتشر، بقولها: إني أحب أطفالي وأريدهم أن يحصلوا على أفضل تعليم! وهو التوجه التقليدي في التربية الحديثة، مع أن كل ذلك مهم جدا، ولكنه لم يعد كافيا في عالم العولمة للقرن الحادي والعشرين. فمن المهم أن نتفهم النقود، وكيفية عملها، وطرق استثمارها لخدمتنا، لا لأن نكون عبيدا لخدمتها. فهل تهيئ مدارسنا الأطفال لمجابهة تحديات حياة اليوم، حينما تكون نصيحتنا المتكررة لهم فقط: ادرس بجد واجتهاد واحصل على درجات عالية، لتحصل على وظيفة براتب كبير؟
وقد فوجئت لتشر بسؤال ابنها: «لماذا يجب علينا هدر الوقت في دراسة مواد لن نستفيد منها في حياتنا العملية؟». فردت بسذاجة بسيطة: «إن لم تحصل على درجات عالية فلن تقبلك الجامعة». فيرد الابن: «إن دخلت الجامعة أم لم أدخل، فسأجاهد لكي أكون غنيا، فلا أريد أن أكون موظفا فقيرا». فاستغربت الأم وسألته: «إن لم تتخرج من الجامعة فلن تحصل على عمل جيد، وإن لم تحصل على عمل مربح، فكيف ستكون غنيا»؟ فرد ابنها: والدتي أصبح الوقت مناسبا لكي ألقي عليك المحاضرات، بعد سنوات طويلة من محاضراتك. عيشي زمننا والتفتي من حولك، فلم يستغني الأثرياء بسبب التعليم. فالموظف المتخرج في الجامعة ينتهي راتبه قبل أن ينتهي الشهر، بينما أناس أمثال مادونا، ومايكل جوردن، جمعوا الكثير من الأموال، وحتى بيل جيتس، ترك الجامعة، وتفرغ لشركة مايكروسوفت، ليصبح أغنى أثرياء العالم، وهو في الثلاثين من عمره، ليوفر الملايين من فرص العمل من خلال اختراعاته. أمي، لا أريد أن أعمل بالجهد الكبير الذي بذلتِه أنتِ وأبي، لكي ادفع الضرائب، وأتحمل الديون، كما لا يوجد اليوم أمان في استمرار الوظيفة، فنسمع يوميا عن إغلاق المصانع والشركات، وزيادة البطالة، كما ارتفعت مصاريف الحياة، ولم تزدد الرواتب، ولم تعد أنظمة التقاعد المفلسة مضمونة، كما لا أريد أن أكون عالة على الحكومة. لذلك لن تفيدني نصائحك القديمة، بل احتاج إلى إجابات جديدة.
وقد لخص كيوساكي ثقافة المال في حوار أبوين، أب وزوج أم مطلقة، مع ابنهم الوحيد. فأحدهما أب فقير متعلم وذكي ودرس بخيرة الجامعات، ستانفورد وشيكاجو، وحصل على عدة بعثات دراسية، وتخرج بدكتوراه وبامتياز، بينما لم ينهِ الأب الآخر، الغني، دراسته المتوسطة. ومع أن كلا منهما كان ناجحا في عمله، وله دخل سنوي مرتفع، ولكن عانى المتعلم، طوال حياته سوء التعامل مع أمواله، ومات مغرقا بديونه، بينما أصبح الآخر اغنى رجل في هاواي، ومات تاركا ملايين الدولارات لعائلته، وللكنيسة، وللمؤسسات الخيرية. وقد كانت شخصيتا الأبوين قويتين كما يؤمن الاثنان بالتعليم المتميز، وهما كثيرا النصائح لابنهما، ولكنهما اختلفا في نوعية النصائح. فيكرر الأب الفقير أن حب المال هو من حب الشيطان، في الوقت الذي لا يستطيع أن يغطي دفع مصاريف عائلته، بينما يصر الأب الغني على أن نقص المال هو الشيطان، ويرفض استعمال كلمة لا لصرف أي مشروع مالي، بل علم ابنه كيفية التعامل مع المال، لكي يغطي أي مصاريف طارئة. وعلم الأب الفقير ابنه الكسل في الرد على المعضلات المالية، بينما علمه أبوه الغني حل المعضلات المالية بالتساؤل والتدريب، والبحث على الإجابات الواقعية لتطوير مهاراته للتعامل مع النقود وزيادتها، كما ساعده على تنمية ذكائه المالي.
وآمن الأب الفقير، بأن على الأغنياء دفع الضرائب لمساعدة الفقراء، وشجع ابنه على الدراسة للحصول على وظيفة بشركة مرموقة، وحذره من التعاملات المالية، والمخاطرة فيها، بينما اعتبر الأب الغني الضرائب وسيلة لمعاقبة الغني على إنتاجيته، ومكافأة الفقير على كسله، كما علمه الطرق الناجحة لإيجاد شركة مربحة لشرائها، وكيفية إدارة المخاطر المالية، وشجعه على مناقشة المال على وجبة العشاء. وكرر الأب الفقير، أهمية توفير الحكومة الوظائف للمواطنين، وتحدث دائما عن الترقية والعلاوة والتقاعد وحقوق العمال، بينما وجه الأب الغني ابنه للاعتماد على النفس والعمل الحر. وعلم الأب الفقير ابنه كيفية كتابة طلب سلفة بنكية، بينما اهتم الأب الغني بتدريب ابنه لإعداد خطة تجارية لمشروع توفر الوظائف للمواطنين. واعتقد الأب الفقير أنه لن يكون غنيا أبدا، وأن المال شيء غير مهم، بينما أكد الأب الآخر أنه ثري دائما، وحينما أفلس أكد أهمية التفريق بين الفقر والإفلاس، «فاعتبر الفقر ظاهرة أبدية، بينما الإفلاس ظاهرة مؤقتة يمكن تغييرها». واستنتج الكاتب من هذه الحكاية أن معاناة الخريجين من الفقر ليست بسبب الدخل المالي، بل بسبب الأفكار والتصرفات الخاطئة في التعامل مع المال، لذلك قرر الابن الاستماع لوالده الغني الذي لم ينه دراسته المتوسطة.
وأنهى كيوساكي كتابه بالقول: «يرتبط زيادة غناء الفئات الغنية، واستمرار فقر الطبقات المتوسطة المتعلمة، بنسبة الاهتمام بمناقشة المال في البيت وبين أفراد العائلة، فما الذي ننتظره من الأب المتعلم الفقير، غير نصح ابنه بالدراسة ليصبح طبيبا أو محاميا أو مهندسا؟ فيدرس الابن للحصول على درجات عالية، ليدخل كلية مرموقة. والمشكلة أن يبقى ذهنه مبرمجا ببرمجة مالية سيئة، فلا يستطيع التعامل مع المال أو العمل على زيادته، فتضيع فرصه في تطوير ذهنه للتعامل مع المعضلات المالية، ويضعف تطور ذكائه المالي. كما لا تعلمه المدرسة شيئا عن المال، بل قد يعتبر بعض المدرسين المال خطيئة يجب تجنب مناقشتها، ويؤكدون تركيز الطالب على المهارات العلمية والرياضية فقط، أما المهارات المالية فليس لها موقع في برامجنا المدرسية، ولذلك نجد كثيرا من أساتذة الجامعات والمحامين والأطباء والمهندسين، المتميزين في مجال اختصاصاتهم، يعانون أزمات مالية. وقد يكون أحد مشاكل اقتصادنا الأمريكي وزيادة ديوننا، هو أن رجال السياسة والبرلمان والحكومة الذين يصدرون القرارات الاقتصادية والمالية، غير مدربين على التعامل مع المعضلات المالية، وليس لديهم المهارات الذهنية اللازمة، والذكاء المالي».
والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستطور التجربة المصرية مع رئيسها المنتخب تعليما يجمع بين تطوير الذكاء المالي وتقوية مهارات الذكاء الجسمي والذهني والعاطفي والروحي؟ وهل ستهيئ البيئة اللازمة لتشجيع الشباب على ممارسة الأعمال الحرة المبدعة، ليشاركوا في تنمية بلدانهم؟ ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.