الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


حوار مع الشيطان!

تاريخ النشر : الأحد ١ يوليو ٢٠١٢



عندما اُمتحِن إبليس بالسجود لآدم (عليه السلام) وسقط في الامتحان حيث رفض أن يسجد كما أمره مولاه عز وجل: }وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً{ الإسراء/.62
عندها عرف إبليس أنه قد خسر دنياه وأخراه، ولأنه لا يريد أن يكون الخاسر الوحيد أخذ العهد على نفسه أن يقعد لأبناء آدم (عليه السلام) كل طريق ليضلهم عن صراط الله المستقيم، وحتى يضمن ملاحقتهم حتى آخر إنسان منهم سأل ربه عز وجل أن يجعله أطول عمراً منهم: }قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39){ سورة الحجر.
هذا هو العهد الذي قطعه إبليس على نفسه ألا يدخل النار وحده، وألا يكون هو الخاسر الوحيد، وبدأ يعد الخطط، ويحيك المؤامرات، ويستعين بشياطين الإنس فيما يعجز هو عنه، لأن كيده مهما كان متقناً، فهو ضعيف كما قال الله سبحانه وتعالى: }الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً{ سورة النساء/.76
ولما أراد الحق تبارك وتعالى وصف كيد النساء، وهم من الإنس، قال سبحانه:}فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم{ سورة يوسف/28 .
إذاً، فإبليس لم يضمر العداوة للإنسان فحسب، بل أعلنها صريحة ودون مواربة حين قال:} قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17){ سورة الأعراف .
هذه هي قصة إبليس مع أبينا آدم (عليه السلام) في البدء، وهذه هي قصته معنا نحن أبناء آدم يسعى جاهداً إلى إضلالنا، وصرفنا عن صراط الله المستقيم، ويستعين إذا لزم الأمر ببني جلدتنا من الذين أغواهم، فصاروا بالغواية شياطين من الإنس يكملون النقص الذي يعتري كيد الشيطان الضعيف.
وفي حوار أداره إبليس مع أبنائه وأحفاده ومع من تبناهم من الإنس الذين أضلهم عن صراط الله المستقيم، فصاروا ضالين في ذاتهم مضلين لغيرهم، من خلال هذا الحوار تجلت لنا حقائق قد تكون غائبة عنا، أو نسيناها أو تناساها البعض منا.
جمع إبليس كل من له صلة به وبكيده وبتدبيره من الجن والإنس وأخذ يستعرض معهم ما يجري على خريطة العالم من حروب، وسفك للدماء، وهتك للأعراض، وتدمير لكل ما هو قائم من بناء، وتوجيه معظم ميزانيات الدول لا إلى التنمية، وإيجاد فرص عمل للعاطلين، أو لسد حاجات الناس، بل معظم هذه الميزانيات توجه إلى بند الحروب أوالاستعداد للحروب، فمن لا يحارب يشتري الأسلحة بأغلى الآثمان ويكدسها زاعماً أنه يعمل ذلك لوقاية بلده، والدفاع عن شعبه من أي تدخل خارجي، وإذا بالحقيقة تتكشف في أول مواجهة بين الشعب والنظام الحاكم وإذا بهذه الأسلحة تتحول إلى نيران تحصد أرواح الشعب، وتمكن للحاكم الطاغية، فيهلك بها الحرث والنسل، وبدل أن يتقدم ببلده خطوات إلى الأمام يعود بها مئات، بل أُلوف الخطوات إلى الوراء، وأخذت الأصوات تعلو شيئاً فشيئاً حتى أشار إليهم إبليس بالهدوء، فصمت الجميع وتهيأوا لسماع ما سوف يلقيه عليهم إبليس، قال لهم: ربما كثير منكم لا يعلم لِمَ جمعتكم، وخاصة من انضم إلينا من الإنس من الذين اختاروا أن ينضموا إلينا، ويعملوا نفس عملنا، خاصة أولئك الذين لا يجدون فرص عمل في دنيا الإنس.
لقد كانت أقصى أماني آن آقعد للصالحين صراط ربهم المستقيم لأغوينهم عنه، وأقلب حياتهم من الصلاح إلى الفساد، ولم تكن أمنياتي ترقى إلى أن أجعلهم مفسدين لغيرهم بعد أن صاروا فاسدين في ذواتهم، ولكن ما لم أتوقعه حصل، وبسبب إدمانهم على الفساد صار الفساد طبيعة فيهم، فصاروا يبادرون إلى نشر الفساد فيمن حولهم من دون أن يطلب منهم ذلك، ولقد حققوا نتائج باهرة ما كنت أتوقعها منهم، رغم أنهم لا يملكون ما نملكه نحن معشر الجن من القدرة على التخفي، واستتارنا عن الأنظار يمنحنا قوة إضافية يجعلنا نوسوس للإنسان حتى تبدو المعصية استجابة لرغبة نفسية وليست وسوسة شيطانية، أما شيطان الإنس عندما يوسوس للإنسان الصالح فظهوره آمامه يقلل من تأثيره عليه، ومن الممكن أن يجادله فيما يعرض عليه، أو يوسوس له به من المعاصي.
واليوم لنا آعوان من شياطين الإنس وصلوا إلى قمة السلطة، فصاروا زعماء، وقادة، وحكاماً، ونراهم وقد قست قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، سفكوا الدماء، وهتكوا الأعراض، وأشعلوا نيران الحروب ليس مع أعداء بلادهم، بل مع شعوبهم، وبدل أن توجه هذه الأسلحة التي دفع الشعب أثمانها الباهظة، بدل أن توجه إلى أعداء البلاد وجهها هؤلاء الحكام الطغاة إلى صدور شعوبهم، وها هي بلاد كثيرة تصطلي بهذه الآسلحة، ويقف الحكام المستبدون في مواجهة شعوبهم ويعدون لهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل ليس لإرهابهم، والحفاظ على أرواحهم، بل لإسكات أصواتهم، ولمصادرة حقهم في الدعوة إلى الإصلاح.
واصل إبليس حديثه قائلاً: لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن يتفوق شيطان الإنس على شيطان الجن، فيحقق مثل هذه النتائج الباهرة رغم أن عمره قصير، وإمكاناته محدودة، وتأثيره يحتاج إلى قوة دليل، وسطوع برهان حتى يؤتي أكله، ويحول الإنسان عن طريق الطاعة إلى طريق المعصية، ليس هذا فحسب، بل يجعله مضلاً لغيره بعد أن صار ضالاً في ذاته.
وبناء على ما تقدم يقول إبليس مواصلاً حديثه قررت الآتي: سوف أجري تعديلا في المناصب نتيجة ما تحقق على أرض الواقع، وسوف أجعل من بعض شياطين الإنس الذين أثبتوا جدارتهم، سوف أجعل منهم نواباً لي لديهم الصلاحيات كافة التي تؤهلهم للقيام بأعباء إضلال الناس، وصرفهم عن عبادة ربهم تعالى.
علت الأصوات بعضها مرحبة بهذا القرار الصائب لأنه يخفف من مسؤولياتهم، وبعضها معترض، كيف يمنح الإنس صلاحيات هي من أخص خصوصيات الجن وفيها من الأسرار ما لو اطلع عليه الإنس لكان خطراً على الجن وعلى أعمالهم؟ وتساءل المحتجون: ألا يخشى إبليس من أن يعود هؤلاء إلى طريق الهداية ويكشفوا خططنا وما ندبره للإنس من مؤامرات؟
رفع إبليس يده مشيرا إلى الجمع بأن يصمت، وقال لهم وهو يحاول تهدئة المحتجين: أنا قائدكم الملهم، وزعيمكم الأوحد الذي يضع لكل قرار يتخذه ما يناسبه من ضمانات حتى يؤدي الغاية المطلوبة منه، وقال لأنصاره: لا تخشوا من هؤلاء الذين يعملون معنا، فقد ذاقوا حلاوة المعاصي، بل أستطيع أن أقول: إنهم قد أدمنوا عليها، ولا يستطيعون لها خلاصاً، فلا تخشوا منهم أبدا ألم تقرأوا قول ربنا وهو يصف تمسك هؤلاء بالسلطة: }قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء...{ آل عمران/26؟ أرأيتم كيف وصف الله تعالى استرجاع الحكم والسلطة من الحكام بأنها نزع كما تُنزع الروح من الجسد؟ عندها خفتت الأصوات إما اقتناعاً وإما طاعة لمولاهم إبليس.
فرح شياطين الإنس بهذه الثقة الإبليسية، ووعدوا قائدهم إلى النار إبليس أن يكونوا عند حسن ظنه فيهم، وأنهم سوف يبذلون غاية وسعهم، وأقصى جهدهم من أجل تحقيق الأهداف الشيطانية التي رسمها لهم.
عندها أعلن إبليس انتهاء المؤتمر الحواري بينه وبين أبنائه، وأحفاده، وأنصاره، وأثنى على الجميع مساهماتهم الإيجابية التي حققت جزءاً كبيراً من وعيده الذي قطعه على نفسه بأن يقعد للناس صراط الله المستقيم ليصرفهم عنه، وهو فرح مسرور لأن ما تحقق من بعض أنصاره من الإنس يفوق ما كان يتوقعه حين تحول هؤلاء الى أحفاد لقابيل أول قاتل في التاريخ الإنساني، فعاثوا في الأرض فساداً، سفكوا الدماء، وهتكوا الأعراض، ودمروا البلاد، وقالوا بأفعالهم دون أقوالهم: أنا ربكم الأعلى!
انتهى الاجتماع على أمل أن يلقاهم إبليس في مؤتمر آخر ليجدد العهد معهم، وليطلعهم على آخر ما تحقق في مجال الفساد والإفساد، ويوزع عليهم الأوسمة والنياشين، ويعيد النظر في خططه وبرامجه لتواكب ما يستجد في دنيا الناس.