شرق و غرب
تداعيات الأزمة السورية وتباين المواقف الدولية
تاريخ النشر : الأربعاء ٤ يوليو ٢٠١٢
لا شك أن الأزمة السورية ستكون لها تداعيات وخيمة على مستقبل المجتمعات في منطقة الشرق الأوسط والشمال الإفريقي. ستكون لهذه الأزمة أيضا تداعيات على مستقبل العلاقات الأوروبية - المتوسطية بصفة عامة والعلاقة بين هذه المنطقة الاستراتيجية في العالم ودوائر القرار والنفوذ في الغرب.
لقد أثبت النظام الدكتاتوري السوري منذ عقود أنه لا يتراجع أبدا أمام أي شكل من أشكال العنف. نحن نعرف هذا الأمر منذ المذابح التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية الموالية للنظام في كل من مدينة حلب ومدينة حماة بناء على أوامر مباشرة من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد سنة .1982 أما في عهد ابنه بشار الأسد الذي تولى الحكم بعده على طريقة الأنظمة الوراثية فإن الشعب السوري قد ظل يحاول على مدى أكثر من خمسة عشر شهرا حتى الآن الانعتاق والتحرر واستنشاق نسيم الحرية غير أن نظام دمشق البعثي يسد أمامه الطريق ويدفعه باتجه حرب أهلية طائفية وأثنية على حد السواء.
منذ بداية الأزمة السورية لم يتوان نظام دمشق عن استخدام مختلف الأساليب القمعية من مجازر يذهب ضحيتها العشرات، وعمليات التعذيب حتى الموت وبتر الأعضاء. هذه الأساليب تطول كل السوريين دون استثناء ، من نساء ورجال من كل الأعمار وخاصة الأطفال والشبان الذين وجدوا أنفسهم مستهدفين منذ بداية المواجهات في مدينة درعا التي تعتبر مهد الثورة السورية.
أما آخر فصول هذه الحرب التي يشنها نظام الأسد ضد شعبه فقد كان مسرحه في قرية "الحولة" التي شهدت مجرزة رهيبة (25-26 مايو) قبل أن تتكرر نفس الجريمة الفظيعة في قرية "القبير" في منطقة دير الزور. لقد مثلت هذه المجازر المتلاحقة ذروة الفظاعة في عصرنا الحديث.
إن الخروج من هذه الأزمة المأساوية يتطلب اليوم تحركا حاسما وإلا فإن المحكمة الجنائية الدولية ستصبح شريكة المجازر التي يرتكبها نظام استبدادي لا يفي بالتزاماته. صحيح أن نظام دمشق لايزال يستند إلى دعائم ومرتكزات داخلية وخارجية كما أنه يسعى لاستغلال تناقض المصالح في المجتمع الدولي غير أن أغلب الشعب السوري بات مقر العزم هذه المرة على عدم التراجع، الأمر الذي أربك نظام الأسد وجعله ينتهك أبسط حقوق الإنسان.
لا شك أن استمرار الصراع المأساوي والدامي من شأنه أن يزيد أيضا من حجم الأخطار التي تتهدد الأقليات في سوريا. أما إذا اتسعت رقعة الصراع وانزلقت سوريا في أتون حرب أهلية مدمرة فإن ذلك قد يطول أيضا الدول المجاورة ويهدد أقلياتها بحكم هشاشة تركيبتها الديمغرافية.
لقد أبرز الكثير من المحللين والخبراء الاستراتيجيين هذا الجانب الآخر من الأزمة السورية غير أن الاعتبارات الجيو - ستراتيجية هي التي غطت كثيرا على هذه الجوانب الإنسانية المأساوية.
فالاهتمام يتركز أساسا على الرهانات السياسية والايديولوجية التي تدخل فيها عدة أطراف إقليمية على الخط مثل إيران وحزب الله اللبناني، المتحالفين مع سوريا، إضافة إلى وجود معسكر آخر يضم تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، إضافة إلى الحليف الإسرائيلي بطبيعة الحال.
إن المعركة حول مستقبل سوريا تدور على خلفية الربيع العربي الذي
عصف حتى الآن بأنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن وهي الدول التي تعاني اليوم استمرار حالة انعدام الاستقرار والانفلات الأمني.
لا شك أن رهان المعركة الحالية سوريا كبير جدا ، سواء بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية - الساعية إلى كسر المحور القائم بين طهران ودمشق ، أو لروسيا التي تدعم نظام بشار الأسد ،- التي تتشبث بسوريا التي تعتبر آخر معاقلها الموروثة عن حقبة الحرب الباردة في منطقة الشرق الشرق الأوسط وإفريقيا. فقد فقدت روسيا - أو الاتحاد السوفيتي سابقا تباعا مصر واليمن والعراق وليبيا إضافة إلى الصومال وإثيوبيا وغيرها من الدول الأخرى التي كانت تدور في فلكها.
لا شك أن النتيجة التي ستسفر عنها هذه المعركة هي التي ستؤخر أو ستعجل بانحسار النفوذ الأمريكي في مختلف أرجاء العالم الإسلامي.
لا شك أن الأقليات في منطقة الشرق الأوسط هي التي قد تتكبد أضرارا جانبية فادحة في الحرب الأهلية المفتوحة في سوريا. فالكثير من أفراد الطائفة العلوية الحاكمة وبقية الأقليات الدينية والعرقية مثل الأكراد والآشوريين والمارونيين والكاثوليك اليونانيين والمسيحيين الأرثدوكس و الدروز المعروفين بحذرهم يشعرون اليوم بأنهم رهائن في لعبة لا منتصر فيها.
على غرار العديد من الأقليات المهيمنة على مدى تاريخ منطقة الشرق الأوسط المترع بالأحداث والتقلبات فإن العلويين بقيادة بشار الأسد يحمون بقية الأقليات الأخرى بقدر ما يتلاعبون بهم ويستخدمونهم كورق للابتزاز. فقد ظل بشار الأسد يصر مرارا وتكرارا على أن جميع الأقليات ستكون مهددة بشكل كبير وجدي من المعارضة التي تضم جماعة الإخوان المسلمين السنة، علما أن السنة يمثلون أكثر من 70% من عدد السكان في سوريا.
في الوقت الراهن لا يوجد أي بديل: وحده التدخل الخارجي الأجنبي القوي هو الذي سيجبر نظام دمشق على تطبيق خطة كوفي عنان بشكل صارم. وإذا ما اتضح أن هذا الأمرغير عملي فلابد من البحث عن سبيل آخر يقوم على أساس تحقيق الانتقال السياسي المنظم والسلس.
هذا يقودنا إلى تحديات التدخل العسكري في سوريا. إن ليبيا دولة صغيرة ومتلاحمة حيث إن عدد سكانها يصل إلى أكثر من ستة ملايين نسمة علما أن 97% منهم من السنة. وفوق ذلك كله فقد انسلخ الجيش الليبي تباعا عن نظام العقيد معمر القذافي الذي لم يكن له أي حلفاء في العالم من أجل مساعدته على الاستمرار في الحرب الأهلية.
قد يقال إن المعارضة التي تنشط في داخل سوريا تعترض على أي تدخل خارجي في الأزمة السورية. هذا صحيح غير أن المتظاهرين والشعب السوري الذي يتعرض للقمع والتعذيب والقتل بشكل يومي يطالب بمثل هذا التدخل الخارجي وهو أيضا ما يطالب به المجلس الوطني السوري المعارض. في ظل هذه الظروف يصعب علينا ألا نتصور أن هذه المعارضة الداخلية غير مخترقة من نظام دمشق أو أنها لا تخضع لابتزازاته بشكل أو بآخر علما أن النظام البعثي الحاكم في سوريا كان دائما بارعا في هذه الأمور. قد يبدو التدخل الأجنبي مبررا وضروريا لهذه الاعتبارات وذلك إذا كان المجتمع الدولي يريد أن يضع حدا لارتكاب مثل هذه الجرائم الفظيعة.
يقول الكثير من المحللين إن ليبيا تختلف كل الاختلاف عن سوريا الدولة المحورية التي يقوم عليها العديد من التوازنات في منطقة الشرق الأوسط. فليبيا دولة صغيرة ومتلاحمة حيث إن عدد سكانها يصل إلى أكثر من ستة ملايين نسمة علما كما أنها دولة أكثر تجانسا ذلك وأن 97% منهم من السنة غير أن تركيبتها القبلية تضع اليوم تحديات كبيرة أمام بناء الدولة المدنية. وفوق ذلك كله فقد انسلخ الجيش الليبي تباعا عن نظام العقيد معمر القذافي الذي لم يكن له أي حلفاء في العالم من أجل مساعدته على الاستمرار في الحرب الأهلية.
ظل صناع القرارات السياسية والمنظمات الحقوقية على مدى الأشهر الماضية تدرس عدة حلول ممكنة غير أن الجدل قد تركز حتى الآن على أنصاف الحلول - بدل الحلول الكاملة - مثل تسليح الثوار أو إقامة ملاذات آمنة للمعارضة على الحدود السورية.
يعتبر دعاة هذه السياسات أن هذا مثل هذا الخيار سيسمح بوقف أعمال القتل والمجازر الفظيعة ويحفظ ماء وجه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من أجل تجنب اللجوء إلى تدخل عسكري شامل على غرار ما حدث سابقا في ليبيا.
صحيح أنه من الصعب التوصل إلى خيار يكون النجاح فيه مضمونا بنسبة كبيرة غير أن التردد الحالي الذي يغلب على مواقف المجتمع الدولي يمثل أسوأ الخيارات في وقت باتت فيه الأوضاع الراهنة في سوريا تؤذن بالخطر المتمثل في انزلاق البلاد في أتون الحرب الأهلية. فإذا تواصل هذا الوضع وإذا استمر الشلل الحالي في مجلس الأمن الدولي فإن سوريا ومنطقة الشرق الأوسط مقبلتان على كارثة حقيقية وخيمة العواقب.
إن المسؤولية الأولى تقع عل كاهل جامعة الدول العربية التي بات يتعين عليها بذل قصارى جهدها من أجل إقناع روسيا وبقية القوى الغربية بالقبول بصيغة تمثل الفرصة الأخيرة من أجل تطبيق كامل وصارم لكافة البنود التي تتضمنها خطة كوفي عنان. في هذه الحالة يتعين على جامعة الدول العربية أن تعلن أن "الفرصة الأخيرة" تعني الآتي: إذا استمر نظام دمشق في مواقفه الحالية فإن كل الوسائل والطرق السلمية في معالجة الأزمة ستصبح في حكم المنتهية ، الأمر الذي سيجعلها تطالب المجتمع الدولي بالقيام بعمل عسكري لوقف المجازر الشنيعة التي يرتكبها نظام دمشق في حق شعبه.
إن الحرب ستمثل السيناريو الأسوأ الذي ستواجهه الولايات المتحدة الأمريكية ، والعالم معها ،- في سوريا. إذا ما نشبت الحرب الأهلية فإن سوريا قد تتحول إلى دولة فاشلة في الشرق الأوسط وقاعدة إقليمية للإرهاب وخاصة إذا ما سقطت ترسانة الأسلحة الكيمياوية بأيدي حزب الله أو حركة حماس أو تنظيم القاعدة أو أي تنظيم آخر راديكالي.
إن نظام بشار الأسد سفاح بات بمعنى الكلمة وقد يزداد دموية وقمعا. وبالمقابل فإننا لا نكاد نعرف أي شيء يذكر عن الثوار السوريين ، وهو ما قاله رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية نفسه.
في ليبيا، هدد نظام العقيد معمر القذافي علنا بإبادة المعارضة. صحيح أن هذا الخطر يظل قائما في سوريا غير أن العنف قد بلغ الآن إلى المستوى الإجرامي ولا يمكن الحديث عن ارتكاب إبادة حقيقية ضد الشعب السوري.
خلال السنة الماضية قتل ما بين تسعة آلاف إلى أحد عشر ألف شخص في سوريا على أيدي نظام دمشق. لا شك أن قتل شخص واحد يمثل مأساة حقيقية. فما بالك بالآلاف الذين قتلهم نظام بشار الأسد؟
في ظل غياب أي سيناريو عملي للتدخل فإن أولئك الذين يريدون الاستمرار في حكم سوريا بقوة الحديد والنار لن يتراجعوا حيث إنهم قد يعتبرون أن المجتمع الدولي يوجد في موقف ضعف كما أن نظام دمشق يراهن على استمرار المظلتين الروسية والصينية اللتين تمدانه بشريان الحياة. لابد أن يتمثل الهدف الأساسي في مساعدة السوريين حتى يتوصلوا بأنفسهم إلى صيغة حل وسط لإيجاد مخرج سريع من الأزمة الراهنة. يتعين على السوريين أنفسهم أن يتوصلوا إلى اتفاق فيما بينهم في إطار حوار يختارون إجراءاته وآلياته بأنفسهم. لابد في هذه الحالة من تغليب الحلول الواقعية دون إعادة النظر في العلاقات القائمة مع بقية الدول وهي علاقات مرتبطة أساسا بمبدأ سيادة الدولة السورية نفسها.
إن مثل هذا الخيار يفرض نفسه أخلاقيا غير أنه لن يكون ممكنا التطبيق إلا إذا تخلينا عن ترديد عدة صور عن سوريا:
التحذير من خطر انزلاق سوريا في أتون حرب أهلية قد تتجاوز الحدود السورية لتجر وراءها كامل منطقة الشرق الأوسط.
القول أن سوريا تتجه الآن مباشرة إلى الانزلاق في حرب مدمرة بين الطوائف والعرقيات والعشائر والقبائل وإن هذه الحرب الأهلية المتعددة الأوجه ستؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على العلويين ،الذين ظلوا يحتكرون مفاصل السلطة والدولة على مدى عقود من الزمن رغم أن نسبتهم لا تتجاوز 10% من إجمالي السكان في سوريا ، واضطهاد المسيحيين.
التخلي عن الحديث عن فزاعة "الإسلاميين" الذين سيصلون إلى الحكم ويحتكرون السلطة ويقيمون الدولة الدينية ويدمرون أسس الدولة المدنية.
لا شك أن هذه الأمور موجودة فعلا في سوريا وهي تمثل تحديات خطيرة لفترة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد غير أنه يتم اليوم توظيفها لخدمة أغراض سياسية مثلما حدث قبل ذلك ولايزال في العراق المجاور الذي يعاني أيضا من تركيبته العرقية والطائفية الهشة.
إن مثل هذا الخيار يفرض نفسه أخلاقيا بشرط أن يتم التخلي عن بعض الصور التي تروج لها بعض الأطراف والتي تحذر من انزلاق سوريا في أتون حرب أهلية ستكون لها امتدادات إقليمية وقد تؤدي إلى نشوب صراع شامل بين السنة والشيعة في منطقة الشرق الأوسط. أما الصورة الثانية التي يلوح بها البعض فهي تلك التي تصور سوريا على أنها تتجه مباشرة إلى الحرب الأهلية ما بين الطوائف والعشائر والعرقيات وأن مثل هذه الحرب الأهلية ستؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على العلويين الذين يمثلون أقل من نسبة 10% من سكان سوريا ، إضافة إلى التحذير من اضطهاد الأقلية المسيحية. أما الصورة الثالثة فهي تتمثل في التخويف من فزاعة "الخطر الإسلامي الداهم". من الطبيعي جدا أن المنظمات المدنية والسياسية - الإسلامية منها والمسيحية - تتبنى في برامجها بعض القيم المستوحاة من الدين. يجب مع ذلك العمل على بناء نظام ما بعد بشار الأسد يقوم على ضمان الظروف اللازمة لتكريس الأمن والمساواة والحرية للجميع من دون استثناء. لا شك أن المجتمع السوري هو المؤهل أكثر من غيره من أجل إدارة خلافاتهم في إطار ديمقراطي.
لوموند