أفق
التثقيفُ الذاتي والحقيقة
تاريخ النشر : السبت ٧ يوليو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
كما توحدت أفكارُ القرامطة والفرق الدينية المختلفة في أثناء التطبيقات التاريخية، وتحولت ليمين حاكم تقليدي، وزالت التفاصيلُ بينها، ولم يعد ثمة فرقٌ بين من يسرق الحجر الأسود ومن يسرق الناس، كذلك فإن الفرقَ السياسيةَ المعاصرة العائدة لرأسماليات الدول المختلفة في أثناء تآكلها التاريخي تغدو متماثلةً، لأنها كانت تستورد نسخا من شموليات مختلفة التفاصيل الوطنية والقومية والأيديولوجية، أو تنتجها في بلدانها، ومن هنا كانت سماتها مشتركة وهي التآكل الفكري والتسطيح المشترك والعودة لليمين التقليدي، وهو بسبب عدم قدرة هذه الرأسماليات الحكومية على الديمقراطية وبناء التعددية وتبادل الحكم، وبالتالي وجود العقلية النقدية والاختلاف والحفر في تحليل المجتمعات والظاهرات المختلفة.
حين يتغذى الطلبة على ثمار الشمولية الفكرية والثقافية لا تستفيد منهم الأوطان، فلا يقدرون على إنتاج البحوث، وعلى تطوير ثقافتهم المحلية، ربما كانوا قبل أن يسافروا ويدرسوا أكثر قدرة على الانتاج الثقافي المستقل، لكنهم هناك تحنطوا وانبهروا بثقافة منفوخة فارغة.
البلدُ الجنةُ هناك والبلدُ النار هنا، الحقيقةُ الكلية هناك والباطلُ هنا. ثنائياتُ الجنةِ والنار والعلم والأباطيل، تعود إلى جوهر الثقافة الشرقية نفسه سواء كانت دينية أو ماركسية لينينية أو ماوية أو قومية بعثية أو ناصرية أو مذهبية، ورغم ضخامة المصدر الشرقي في إنتاج نسخة أكثر اتساعا وفيها عناصر نقدية متوارية تلغيها عقلية الشمولية السائدة، فانها في النهاية ومع التخرج لا تنتج عقلية معرفية نقدية، ولكن تنتجُ عقليةَ نصوص، ثم تتغلغل أكثر داخل التنظيم الذي يشكلُ الحقيقة الواحدية، وعدم الاختلاف، والمجهد بصراعاته الضارية، والمتحول لمنشورات محروقة ضائعة، مع غياب الأرشيف الذي هو في حد ذاته مستمسك.
يستنزف الوعي الجديد نفسه، لا يقدرُ على الإنتاج العميق، ويتصحرُ مع الأيام، ويتحولُ لمواد مسطحة، لا تجد فوارق بينها وبين النصوص الدينية التي تستعيد النمط نفسه لكن عن طريق العودة للنصوص القديمة، لكنها تتباهى بكثرة مريديها، لا بكثرة علومها وعمق نظراتها، وتتمكن من تحريك الخريطة الاجتماعية باتجاه تمزيقها، وتحويلها إلى مذهبيات سياسية كثيرة، كللا مذهبيةٍ سياسيةٍ هي من نمطِ غيرِها لكن تختلف الشعائر مثلما تختلف الصين عن روسيا في الأمور الثانوية لكنهما تجسدان الشمولية نفسها التي بدأت شعبية وصارت استغلالية عليا، تغدو الاختلافات عبر الوقوف في الصلاة أو تباين الولاء للزعماء المحنطين، كل هذه نتاج دول شمولية قديمة وحديثة.
لا يستطيع الشموليون الشرقيون أن يتباينوا كثيرا، وثمة حشودٌ من الدول والدويلات ذات الأعلام المختلفة والتقاليد المتباينة لكنها في ذات الجوهر الاجتماعي.
لذا فإن الثقافة المنتجة المقدمة لمختلف الأجيال عبر هذا التنميط التسطيحي لا تصمد حتى للثقافة الاستهلاكية الفجة المقدمة بشكل شعبي واسع، فهذه الثقافة التافهة تتغلبُ عليها وتنتشر بين الناس وتقدم لهم غذاء مسموما.
التقاء الجماعات الشديدة الاختلاف سابقا التي كانت تتصارع من أجل شعرة من الشعارات وتتصادم على الاحتفال بيومٍ أو آخر من أيام النضالات، ليس غريبا مع هذا التحلل الترديدي الداخلي وغياب الاهتمامات العميقة وتلاشي النقد والدراسات، من هنا لا تتحول لتيارات فكرية سياسية، بل إلى "شِللٍ"، فلم تستطع أن تصل إلى فئاتها وطبقاتها وشعوبها، استنزفتْ نفسها في الصراعات وغيّبت الوحدات والبحث عن نقاط مشتركة، وركزت في تلك الشعيرات من الأفكار التي تجاوزها التاريخ، بل كانت خاطئة في حينها.
لكن التاريخ لم ينتهِ بل يتجدد؛ مواد الأخطاء تغدو هي نفسها بحوثا ونقدا وتصورات جديدة تقوم بها قوى شابة خرجتْ من العُقد السياسية، وما كانت مدارس شاملة تغدو أدوات تحليل ومناهج فكرية، والعبرة بدور الفكرة في التأثير والحركة العقلانية.
صار التثقيف الذاتي المستقل ضرورة، وتعدديةُ الرؤى أفضل من التنميطات والأشكال المعلبة، وإجراء البحوث حتى لو كانت صغيرة أفضل من الاستماع للخطب المطولة وخاصة المبجلة للتجربة الفريدة، وغدت مهمات الشباب درس الماضي والعثور على أوراقه ونقده وتحليله لا على تحنيطه.
قوة الأفكار التحديثية في نقدها، وتحليل نفسها، وتجاوزها.
مشكلة الماضين اتباع مركز واحد مطلق، لا للتوجه لمراكز متعددة، وعدم وجود أصوات متعددة، وقراءات لنقد الذوات، وتحنيط التجارب والرموز وتضخيم الشخوص، وعدم قراءة المشكلة والوضع من زوايا متعددة.
إن العالم يقوم الآن بمراجعاتٍ واسعة للماضي، وقد أضر الجمود بالأغلبيات العربية الشعبية التي لم تحصل على قوى طليعية ديمقراطية ذات بُعد نظر، فسقطتْ فيما هو متاح مختلف عن الأنظمة الشمولية باستيرادها الشرقي لا عن استبدادها، فلم تستطع القوى الديمقراطية أن تتبصر المستقبل، وقفزتْ في الفراغ، واستعاد المحافظون السلطات وراحوا يكررون نسخ الأنظمة السابقة بأشكال جديدة، وبعضها واعد لكن صراع القوى الاجتماعية سيوضح هذه الشعارات المجردة حتى الآن.
في إعادة فهم الماضي ونقد الشموليات الشرقية ومصادرها الفكرية مادة كبيرة للتثقيف والتغيير.