الثقافي
نزيفُ الشر
تاريخ النشر : السبت ٧ يوليو ٢٠١٢
انتفخت أوداجه وتضخمت كثعبان غادر يهم بنفث سمومه القاتلة على طرائده الضعيفة، لسانه الماكر يلهج بكلمات ملتوية تنفح منها رائحة الدهاء، كان شديد الفخر بمنصبه الحكومي الرفيع جدا وهو يستدير كطاووس فارد ريشه البديع أمام الموظفين الثلاثة، يحدثهم عن تاريخه القديم الذي أوصله إلى هذا المنصب الخيالي الثراء والوجاهة، كان أحد الموظفين الثلاثة يجلس على أريكة مخملية كبيرة تبعد حوالي عشرة أمتار أو أكثر قليلا عن زميليه الموظفين الآخرين اللذين اتخذا مقعديهما بالقرب من طاولة المسئول صاحب المنصب العالي المذهبة الفخمة، زاويته البعيدة التي يحدق من خلالها تدعه أن يطل على قسمات وجه المسئول الكثيرة التعابير المرتبكة من خلال حركات عينيه وتقاطيع جبهته، أخذ يوجه كلاما فيه شيء من الغرور إلى الموظفين المتورطين بالجلوس بقربه، وهما يهزان رأسيهما بين لحظة وأخرى يجاملانه كمدا لما يهذي به من أحاديث كاذبة عن ذلك الماضي الذي كان يتباهى بسرده جذلاً، كانت تتراءى في عيونه المضطربة التي لا تهدأ أهدابها نفسٌ تعاني عقدة تضخم الذات، لم ينطق أحد منهم طيلة فترة كلامه ربما رهبة من زلة لسان قد تسقطهم في شر عدوانه، سكت قليلا منتظرا مديح أحد له لحصوله على منصبه العالي، طال صمتهم، فعاد ليتكلم ولكنه في هذه المرة غيرّ دفة حديثه بصورة غير متوقعة قائلا:
ـ تعرفون هؤلاء المتحكمين بالسلطة في هذا البلد يحبون من يرفع شأنهم نفاقا ورياء، لقد قمت بكتابة مقالات أمدحهم فيها وأمجدهم في المجلات والصحف المحلية.
أخذهم العجب من كلامه الغريب، أخذ يطلق بعدها ضحكات منتشية كالمنتصر في ميدان معركة حامية الوطيس، اعتدل في كرسيه وأخذ يتفرس بعمق في عيني الموظف الجالس على يمينه كأنه يستعد لقول شيء أشد من سابقه غرابة، تنفس شهيقا عميقا واستمر في مواصلة كلامه قائلا:
ـ هل تصدق انهم استدعوني وكانوا ممتنين كثيرا وقدموا لي الشكر لمقالاتي، أعطوني بعدها هذا المنصب الرفيع.
في "الطوابق" العليا كان مكتبه، لا يسمح لأحد بالصعود إليه إلا بعد أخذ إذن من الحرس الخاص الذين يحرسونه على مدار الساعة، رغم انه تجاوز الستين من عمره بسنوات عديدة، فهو لا يتقاعد أبداً رغم الأموال الهائلة التي نهبها، كانت تتسرب أنباء خفية عن حبه للهو والمجون والعربدة، يجلب فتيات جميلات سكرتيرات شخصيات له، يستغلهن بسطوته وجبروته، لا يمكثن طويلا معه ويستبدل أخريات بهن، إلى أن جاءت إحداهن، كانت صغيرة في السن، ملامحها البريئة توحي بأنها لم تتجاوز العشرينيات من عمرها، شعرها مسترسل كحرير ناعم الملمس، عيناها تشع منهما دفء بحر هادئ الأمواج، تضفي الجمال والنور عندما تطل في الصباح الباكر وهي في طريقها إلى مكتبها في الطابق العلوي الأخير.
التقاها أحد الموظفين في صباح يوم مشرق عند بداية حضوره للدوام، تكلم معها بكلمات قليلة وبعدها عرفته على نفسها قائلة له:
ـ رآني مسئولكم في زيارته لمقر شركتنا في المجمع التجاري، عرض علي راتباً كبيراً للعمل معه سكرتيرة في مكتبه، أنا من عائلة فقيرة، والدي متوفى، لدي اخوة صغار في سن المدارس ولا يوجد عائل لهم غيري.
أسرعت بعدها الخطى نحو المصعد الذي ابتلع جسدها الجميل بداخل صندوقه الحديدي ليأخذها إلى الطوابق العليا.
في صباح أحد أيام الصيف الحارة، اشتد فيه تراكم الضباب الكثيف كستارة تتدثر بها الأرض وتتلحف تحتها البنايات والعمارات الشاهقة، وصل الموظف إلى العمل بصعوبة من جراء اختفاء معالم الطرق، أخذ النهار ينتصف ببطء بعد أن صفت الدنيا تدريجيا بانقشاع ذرات الضباب الرطبة، كان يتأمل من نافذة مكتبه تلك الساحة المقفرة التي تقع أمام البناية التي يعمل فيها، رمالها الناعمة تحولت متفحمة السواد من شدة لهيب الشمس المتوهجة التي تتسلط عليها طيلة أشهر الصيف الطويلة، تطرق إلى سمعه خطوات أرجل تنهب الارض وتقترب من مكتبه، لم يصدق ما رأت عيناه عندما دخلت الفتاة الجديدة مكتبه، ارتبك كثيراً لرؤيتها المفاجئة، وجهها الجميل بدا خائفا، عيونها تفضح دموعا تنهمر منها، بيدها ظرف بني اللون، سلّمته اياه وقالت بكلمات قليلة فيها حزن عميق:
ـ أرجوك أوصل هذه الرسالة إلى المسئولين في الحكومة، إني مستقيلة من العمل.
خرجت مسرعة ولم تخبره بما جرى لها، نظر إلى الظرف وجده مفتوحاً، تردد في اخراج الرسالة، قال في نفسه:
ـ يبدو انها كانت مرتبكة ومستعجلة ونسيت أن تغلقه بإحكام، أو ربما أرادت أن أعرف سبب استقالتها المفاجئة.
أخذ يقرأ كلماتها بصوت خفيض داخل نفسه، قرأ أسطرها الأولى، علم منها انها رسالة شكوى على مسئولها المتغطرس صاحب المنصب العالي، واصل قراءة كلماتها التي تقول فيها:
ـ طلبني في مكتبه كعادتي كل صباح لأتلقى تعليماته بتنفيذ الأعمال المطلوبة، اقترب مني وهو ممسك بصورة كبيرة كانت مركونة على مكتبه، أشار إلى الموجودين معه في الصورة، كانوا أفرادا يلبسون بشوتاً موشاة بخيوط ذهبية، قائلا لي:
ـ سأعطيك أرضا كبيرة عن طريق هؤلاء المتنفذين في البلاد الذين ترينهم معي في الصورة، انهم يملكون كل شيء في هذه البلاد، وأنا صديق مقرب إليهم.
أخذ بعدها يتلمس أجزاء من جسدي، رفضت ما كان يقوم به، فوجئت بهجومه علي، اشتدت مقاومتي له وأنا أصرخ وأرجوه ألا يفعل ذلك، لم يلتفت إلى توسلاتي، امتدت يده إلى خاصرتي محاولا أن يفك تنورتي، أخذ يشدها بكلتا يديه إلى أن انحسرت عن جسدي، ارتمى علي ولم يتركني إلا بعد أن انتهك كرامتي ونزفت دماء براءتي.
أعاد رسالتها إلى الظرف، ركب سيارته وهو يسلك الشوارع البعيدة المؤدية إلى ديوان الحكومة لتسليم رسالتها، لمح من بعيد شبح مسئوله المجرم يتأبط ذراع احد رجال الديوان ينافقه ضحكا وبشته الأسود يتطاير شرا مع عصف الرياح المزمجرة.
نظر إلى رسالتها بجانبه على المقعد الأمامي، أدخلها في صندوق لوحة القيادة، أحكم غلقه بالمفتاح، عكس اتجاه سير سيارته ورجع يائساً.