دراسات
الخليج والاقتصاد العالمي.. الاقتصاد الخليجي بعد النفط (4-4)
تاريخ النشر : السبت ٧ يوليو ٢٠١٢
تناولت الحلقة الأولى من سلسلة حلقات "الخليج والاقتصاد العالمي" انتقال مركز الجاذبية في الاقتصاد العالمي شرقا نحو القارة الآسيوية نتيجة الصعود الاقتصادي القوي للاقتصادين العملاقين الصين والهند، مع التركيز في العلاقات الخليجية الصينية وآفاقها المستقبلية، فيما فندت الحلقة الثانية المزاعم حول أن الرمال الزيتية تهدد العصر الذهبي للخليج واقتصاده القائم على النفط، في حين رصدت الحلقة الثالثة تغيرات النظام النقدي العالمي وآثاره في دول الخليج، ولاسيما مع التحول الذي طرأ على تغير الخريطة الاقتصادية العالمية.
وفي هذه الحلقة الرابعة والأخيرة، نستعرض مستقبل الاقتصاد الخليجي بعد النفط، وذلك استنادا، كما في الحلقات الثلاث السابقة، إلى ما طرحه الخبراء المشاركون في الندوة التي نظمتها وحدة الخليج بكلية لندن للاقتصاد التي تمول أنشطتها دولة الكويت، والتي جاءت تحت عنوان: "الخليج والاقتصاد العالمي".
فعلى مدى أكثر من أربعة عقود لم يتوقف الحديث على المستويات الرسمية والأكاديمية والشعبية عن ضرورة تنويع مصادر الدخل في بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تعتمد أساسا على مصدر واحد ناضب هو النفط الذي يمثل نحو 80% من عوائد الصادرات والإيرادات الحكومية، وفي الآونة الأخيرة اكتسب هذا الحديث قوة دفع كبيرة من الخارج والداخل لقرب نضوب هذه الثروة والضغوط البيئية، وتوقع أن تسفر الجهود العلمية عن مصادر بديلة منافسة في الأمد المنظور، ولهذا أكد المحلل السياسي "ألستر نيوتن" في مداخلته بفعاليات الندوة حاجة الدول الخليجية الماسة إلى ضرورة التنويع الاقتصادي بعيدا عن صناعة النفط، وأن تكثف من التخطيط لاقتصاد ما بعد النفط.
الجدير بالذكر أنه في مؤتمر "بروكنجز الدوحة للطاقة 2012" في فبراير الماضي أكد رئيس الوزراء القطري أن الاحتياطي العالمي من النفط لا يزيد حاليا على ألف ومائتي مليار برميل تملك دول الخليج منها 65%، ولكن الاستهلاك اليومي الحالي يزيد على 80 مليون برميل والسنوي 30 مليار برميل، وهو مرشح للزيادة، ولهذا فإن القيمة الاقتصادية للنفط سوف تتراجع باستنفاد الاحتياطي، أو باكتشاف بدائل جديدة أقل كُلفة وأقل ضررا للبيئة، ودعا المسؤول القطري إلى أن يتم تخصيص جزء من العوائد النفطية لتنمية البحث العلمي في مجال إنتاج الطاقة النظيفة، وسياسة عامة وشاملة تضعها الدول المنتجة للنفط وخاصة دول الخليج تتحدد من خلالها السياسات والآليات اللازمة لضمان استمرارية خططها التنموية للعقود الخمسة القادمة على الأقل، كما دعا إلى وضع خطط استراتيجية لما بعد مرحلة النفط.
وتشير دراسات وكالة الطاقة العالمية إلى أن الإنتاج النفطي العالمي يبلغ ذروته بين عامي 2010 - 2020، ثم يبدأ بعد ذلك العد التنازلي والهبوط غير القابل للتراجع، كما تقدر معظم الدراسات أن عمر النفط المتبقي قد لا يتجاوز 50 عاما، وإذا استمر النمط الحالي لاستهلاك الثروة النفطية، وهو الأقرب إلى استنزاف هذه الثروة، فلن تكون الدول النفطية قادرة على توفير وظائف جديدة لاستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل، فعوائد النفط بوضعها الحالي هي أموال سائلة مقابل ثروة يتم استخراجها من تحت الأرض، وما لم تتحول هذه الأموال السائلة إلى أصول منتجة تدر عائدا بديلا مساويا أو يزيد، فإن رفاهية الدول النفطية تصبح محل تهديد، ولن تستطيع البنى التحتية وحدها أو العمران الحضري، وإن كانا عاملين مسهلين لنشأة وعمل الأصول المنتجة، أن يسهما في توليد الدخل أو زيادته، فالعمر المقدر للثروة النفطية الذي أشرنا إليه ليس طويلا بمقياس عمر الشعوب والأمم.
وهنا، تفرض مجالات بعينها التأهل لمرحلة ما بعد النفط، وهي التنمية البشرية بمعناها الصحيح الذي لا يكتفي بالمؤشرات الكمية، وفي قلب هذه التنمية يبرز التعليم، وتنمية قطاعات الاقتصاد العيني وخاصة الصناعات التحويلية، وتقنين الإنتاج النفطي بما يتوافق مع الاحتياجات التنموية ومراعاة الأجيال القادمة، وتعزيز اتجاه التعاون الاقتصادي في منظومة مجلس التعاون الخليجي على أساس تكاملي وليس تنافسيا والإصلاح الشامل للمالية العامة، بما يرشد الإنفاق الحكومي على أساس العوائد المتحصلة من قطاعات الإنتاج المحلي.
غير أن استراتيجية تنويع مصادر الدخل لا ينبغي أن تأخذنا بعيدا إلى سياسات الاكتفاء الذاتي وإحلال الواردات، بما يفضي إلى تنحية اعتبارات الكفاءة والتنافسية جانبا، فليس بمقدور أي اقتصاد أيا كان حجمه أن ينتج كل ما يحتاج إليه، ولكن عليه أن يتنوع في اتجاه القطاعات التي يحقق فيها ميزة نسبية أكثر من غيره، ونذكر أن سياسات الاكتفاء الذاتي في عالم الاعتماد المتبادل قد غدت ضعيفة الجدوى سواء كانت هذه السياسات على المستوى الوطني أو المستوى الإقليمي، وأنها تحمل من إهدار الموارد وتبديد الجهود أكثر مما تعني في الاستغناء عن العالم الآخر، وهذه النتيجة جعلت السياسات الحمائية سياسات مستهجنة، وهي إن كانت تصلح لعالم الثورة الصناعية بحجة حماية المنتج الوطني الأقل كفاءة، فهي لا تصلح لعالم اليوم الذي تتوزع فيه الأدوار، لينتج كل بلد ما يمكنه بحكم موارده التفوق فيه وإنتاجه بكُلفة أفضل.
وبناء على ذلك، فإن الهدف من التنويع في الاقتصاد الخليجي هو تقليل الاعتماد على مداخيل النفط المتقلبة كمصدر وحيد أو رئيسي لأنه مصدر ناضب تتغير أسعاره صعودا وهبوطا ولا يتسم بالاستدامة، وذلك بتنمية القدرات والإمكانات الموجودة القابلة للتنمية، ومن ثم يغدو تحديد هذه القدرات والإمكانات هو التحدي الذي يفوق عملية التنمية ذاتها، ذلك أن التنويع ينبغي أن يكون في إطار التنافسية غير متناقض معها، كما أن نجاحه يتطلب أن يكون في إطار تعاوني تجنبا للازدواجية في المشروعات التي تقام في دول مجلس التعاون الخليجي، وهي الازدواجية التي تبدد مواردها وتحد من قدراتها على المنافسة وتنويع مصادر الدخل وتجبرها على التنافس فيما بينها في وقت تحتاج فيه إلى التكامل.
وتحديد القطاعات التي يتم الاعتماد عليها لتحقيق غرض تنويع مصادر الدخل يواجه بعدة إشكاليات أبرزها:
- ما هي الصناعات التي لكل دولة خليجية فيها ميزة نسبية أكبر من غيرها من الصناعات وأكثر من الدول الخليجية الأخرى؟
- هل يتم التركيز في أكثر الصناعات تنافسية أو التمدد في مجموعة واسعة من الصناعات؟
- هل يتم استهداف زيادة القاعدة الضريبية أو اتباع ضريبة منخفضة لجذب الاستثمارات؟
- هل يتم انتهاج سياسة تستهدف النمو أو سياسة استهداف تعظيم النمو؟
- هل يتم استهداف زيادة تشغيل العمالة الوطنية أو الاعتماد على مرونة سوق العمل؟
وفي الآونة الأخيرة، وفي ضوء الجهود التي قامت بها البلدان الخليجية وأدت إلى تحقيق معدل نمو سنوي لقطاعاتها غير النفطية 5,1% في مقابل معدل نمو سنوي 3,3% لقطاع النفط والغاز، تبدو القطاعات الآتية مرشحة أكثر من غيرها لتكون مرتكزات تنويع مصادر الدخل في البلدان الخليجية في العقد القادم:
- البتروكيماويات والبلاستيك.
- الألومنيوم والتعدين والصناعات القائمة على المعادن.
- تجارة الجملة والتجزئة.
- الخدمات اللوجستية.
- السياحة والضيافة والطيران.
- الخدمات المالية.
فقطاع الألمونيوم الذي حققت فيه دبي والبحرين مستوى متقدما بالمعايير العالمية يأتي في مقدمة الصناعات التي ينسجم تطويرها مع أهداف التنمية الصناعية المستدامة، ويتمتع بتوازن وتكامل على المستويين الاقتصادي والبيئي، ضمن آليات وأطر تسهم في توطين تقنيات الصناعة المتقدمة، كما أن النجاح الذي حققته البلدان الخليجية في صناعة البتروكيماويات يجعل هذه الصناعة تقود نجاح الصناعات التحويلية الأخرى، ولكن هذه الصناعات كثيفة الاستخدام لرأس المال، وهو ما أبقاها إلى الآن كاستثمار حكومي لأن هذا الاستثمار هو وحده القادر على استيعاب خسائر بداية عمر التشغيل واستمرارية المشروع بعنصر من الدعم، مما جعله قادرا على استيعاب السوق الداخلية والنفاذ للسوق الخارجية، رغم تذبذب الأسعار في هذه السوق "الألومنيوم مثلا تراوح سعره بين 3300 دولار للطن في 2008 و1300 دولار للطن في 2009 قبل أن يرتفع فوق 2000 دولار للطن بنهاية 2011" كما أن إحجام القطاع الخاص عن الاستثمار في المشروعات الصناعية الكبيرة قد جاء نتيجة سبب آخر، هو تعرض أسعار أسهم شركات القطاع الصناعي المدرجة في البورصات الخليجية لضغوط مستمرة وتراجع في ,.2011 يذكر أن منطقة مجلس التعاون الخليجي تحوي 5 مصانع ألومنيوم توفر 20 ألف فرصة عمل مباشرة و30 ألف فرصة عمل غير مباشرة.
وإذا كان القطاع الخاص مازال محجما عن المشروعات الصناعية الكبيرة، فإن المشروعات الصغيرة والمتوسطة تبدو مجال نشاطه الواعد، وأول ما يتطلبه النجاح في هذا الشأن هو تحقيق تقدم في الإصلاح التعليمي للتمكن من استيعاب التكنولوجيا القائمة والمتطورة، وذلك حتى لا يكون التوسع الصناعي كمفتاح لتنويع مصادر الدخل مؤديا من ناحية مقابلة إلى زيادة الاعتماد على العمالة الوافدة، ويدفع إلى الاعتماد على الصناعات التحويلية أكثر لتحقيق تنويع مصادر الدخل التلكؤ الذي أصاب القطاع العقاري في أعقاب الأزمة المالية 2008 وإحجام كثير من المستثمرين عن الدخول أو المشاركة في مشاريع جديدة، ويبدو مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة أكثر اعتمادا على جهد الشركات الكبيرة كأرامكو وسابك في المملكة العربية السعودية في تكليف القطاع الخاص بإنتاج صناعات مغذية، كما أن نمو هذه الصناعات يرتبط بحزمة المحفزات الحكومية، كإنشاء المدن الصناعية المرافقة للكهرباء والماء والغاز والخدمات بأسعار مناسبة وتوفير التمويل السهل المنخفض الكلفة ودراسات الجدوى والتدريب وحضانات المشروعات، وهذه الحزم التي اتبعت بطرائق ودرجات مختلفة من بلد خليجي إلى آخر أثمرت الإسهام في الارتقاء بالصادرات الصناعية الخليجية من 20,5 مليار دولار عام 2000 إلى 131,3 مليار دولار في .2010
وإذا كانت الصناعات التحويلية هي المجال الأكثر أمانا الذي بينت التجربة التاريخية للتنمية أنه كان رأس الحربة في تحقيقها، فإن الاستثمارات العقارية تبدو على المستوى الخليجي مجالا آخر لتنويع مصادر الدخل سواء كانت استثمارات في الداخل أو الخارج، ونشير هنا إلى مثال شركة الديار القطرية ومشروعها العقاري الضخم مدينة لوسيل السكنية في قطر وتأسيسها شركة قطر لتطوير السكك الحديدية ومشروع حديقة الشيراتون ومشروعاتها العقارية في القاهرة والسودان والمغرب وتونس وليبيا واليمن وفلسطين وتركيا وطاجيكستان والولايات المتحدة وكوبا والمملكة المتحدة، كما أخذت البلدان الخليجية تدرك قيمة الاستثمار في قطاع السياحة سواء في جذب السياحة القادمة أو جعل مواهبها السياحية مفضلة لدى المواطن الخليجي الذي ينفق كثيرا في سياحته الخارجية، يذكر أن السعودية تستقطب سنويا قرابة 30 مليون شخص في السياحة الدينية فقط، ولديها العديد من المواهب السياحية الترفيهية والثقافية سواء على السواحل أو في الداخل، وكما تعد الصناعات التحويلية المجال الرئيسي لتنويع مصادر الدخل في السعودية والإمارات، تعد هذه الصناعات إضافة للخدمات اللوجستية والمالية والسياحة وتجارة الجملة والتجزئة المجالات الاستراتيجية لتنويع مصادر الدخل لمملكة البحرين، وكذلك يعد نشاط الصيد البحري أهم مصادر تنويع الدخل في سلطنة عمان، وتبدو الأهمية الكبيرة للاستثمارات الخارجية وصناعة البتروكيماويات في كل من الكويت وقطر.