الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

«الربيع العربي» ومعضلة الفساد الصغير

تاريخ النشر : الأحد ٨ يوليو ٢٠١٢



لقد تصور بعضهم، بعد ما سمي ثورات الربيع العربي، أن الثورات، وتغيير الحكومات، ستحل جميع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تعانيها مجتمعانا العربية، ولم يتصور بعضهم أن معالجة تحديات التنمية المعقدة، وفي عالمنا المتشابك، يحتاج إلى تغيير مجتمعي وأخلاقي، مع تطوير عقلية الإنسان العربي بأكمله. وقد لا تكون الديمقراطية التي نحلم بها فقط انتخابات وبرلمانات وتشكيل حكومات منتخبة، بل تحتاج أيضا إلى تطوير عقلية الإنسان العربي لينتخب قيادات واعية وناجحة وحكيمة، كما نحتاج إلى تطوير أخلاقيات السلوك في مجتمعاتنا العربية، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة وفي عالم العولمة المعقد. وقد تكون من أحد التحديات الاخلاقية المعادية للتنمية الاقتصادية في مجتمعاتنا العربية معضلة الفساد الصغير، المنتشرة بشكل متفاوت بيّن في المؤسسات الحكومية، والمنظمات المدنية، والاحزاب السياسية، التي عادة من أهم الأسباب في زيادة الخلافات والصراعات على الزعامات الكاذبة.
ولم تخلُ الدول المتقدمة من هذه المعضلات، في عالم العولمة الجديد. فمثلا بدأ القلق يعم المجتمع الياباني من انتشار الجريمة والفساد الصغير كإحدى الظواهر السلبية للعولمة. وقد علقت الصحافة اليابانية على تقرير دائرة الشرطة المتروبوليتية الذي بين أن الجرائم الإبداعية قد بدأت تزداد في سوق أكيهبارا الالكترونية. فسرقة حقائب اليد والسلع، وبيع السلع الممنوعة، وتقديم الخدمات غير القانونية وصلت إلى مستويات مقلقة.
وتمنى الاعلام الياباني ألا تكون ظاهرة أكيهبارا الجديدة عرضا لمعضلات اجتماعية اكبر وأسوأ في المجتمع الياباني. ومن السهل أن تنتشر هذه الظاهرة في المجتمع الياباني الآمن والمسالم، فمثلا ترى النساء نائمة في القطارات بالحقائب اليدوية الشبه مفتوحة والمليئة بالأموال، ومع ذلك لا أحد تحلو له نفسه بالسرقة. والكثير من البيوت ممكن فتحها بسهولة ومع ذلك لا أحد يجرؤعلى الاقتراب منها. وهذه الأوضاع الآمنة، والمرتخية أمنيا، مشجعة على كثرة السرقات والجرائم في بعض البلدان. ونحتاج إلى تغيير الشعور الدائم بالأمان والبدء بالحذر. ولا يمكن توجيه الاتهام لمجموعة محددة من الأشخاص، لا الأجانب ولا العاطلين عن العمل، ولا عصابات الجريمة المنظمة. فهذه ظاهرة اجتماعية لا يمكن تبسيط أسبابها المتشعبة، ولكن الحذر والردع العملي سيأتيان بنتائج إيجابية.
واسترسل الاعلام الياباني بالتوضيح أن سوق اكيهبارا تعتمد على المشترين الأجانب، فأي خطوة غير حكيمة لمواجهة الجريمة ستؤدي إلى مأساة انخفاض المبيعات. فوقف الجريمة في بدايتها، وبتكلفة ممكنة، ستؤدي إلى نتائج سريعة وناجحة. وقد أصبحت معاقبة الفساد والجريمة في دول كالولايات المتحدة الأمريكية نزفا اجتماعيا واقتصاديا لا يمكن تصوره. فالجريمة تغذي نفسها وتهيىء الظروف المناسبة لجرائم اكبر وأكثر. وقد يبدو الكلام عن إيجاد بيئة اللاجريمة خيالا جامحا، ولكن من المعروف عن اليابان أنها بلد اللاجريمة نسبيا، وما يحتاج إلا إلى قليل من التكيف للوقاية منها.
وسوق أكيهبارا للالكترونيات أحد وجوه اليابان المهمة، فلو تلاحظ عدد اللغات التي تستعمل في هذه السوق لتتصور أنك في الأمم المتحدة. ومع ذلك من الممكن اعتبار مجتمع الأمن والأمان الياباني مادة للتصدير كما هو منتجاتها التكنولوجية وثقافتها المجتمعية. وقد تعلمت الشرطة في جميع العالم من خبرة (الكوبان )المجتمعي الياباني. فنسبة الثقة والراحة المتوافرة في بيئة المدينة هي نوعية فريدة يمكن أن تكون اليابان فخورة بها، وليس من السهل إرجاعها حينما نفقدها، والجريمة تتبعها سلبيات اقتصادية واجتماعية، وبالسلوك السليم والخطط المدروسة، من الممكن السيطرة عليها.
وقد أثلج صدري خبر اهتمام القيادة المصرية بعد الانتخابات الأخيرة بظاهرة الفساد الصغير، وقد أعجبت بجرأة بعض المسئولين لطرح هذا الموضوع مع حساسيته الشعبية. فقد صرح مسئول مصري كبير أن الدولة المصرية جادة تماما في مواجهة الفساد، واتخاذ الإجراءات الحاسمة ضده، وهي تقوم بإعداد دراسة لمواجهة ظاهرة الفساد الصغير وإيجاد الصيغ المناسبة للتعامل معه. كما عرف المصدر عناصر الفساد الصغير بأنها الوساطة والرشوة الصغيرة وتقديم الهدايا والاستعانة بالمعارف لتسهيل الإجراءات، والتعامل السيئ مع المال العام والاختلاس والتحايل على القوانين.
وقد اهتمت المجتمعات الديمقراطية بمعضلة الفساد الصغير وتعاملت معه بصرامة، لما له من أثر سلبي على أخلاقيات المجتمع واقتصاده وتنمية أجياله المستقبلية. وتعرف المصادر الغربية الفساد، بالسلوك غير القانوني للحصول على منفعة شخصية، كالرشوة، واستغلال الشخص للمركز، أو استغلال المعلومات المرتبطة بالمركز للثراء، وتنتشر في المجتمعات غير المترابطة اجتماعيا، والتي يختفي بها مفهوم الخجل والحياء الاجتماعي، وينعدم بها التنفيذ الصارم للأنظمة والقوانين التي تحارب الفساد. كما بينت الأبحاث العلمية تلازم الفساد مع البيروقراطية والاستغلال التجاري، كما ان هناك علاقة عكسية بين الفساد والتنمية الاقتصادية، فكلما قل الفساد ازدادت التنمية. والعلاقة عكسية أيضا بين الفساد والأخلاقيات المجتمعية والقيم الدينية، وحرية المتاجرة، ووجود الحكومات الديمقراطية، والمعايشة الطويلة للمواطن في المجتمعات الديمقراطية، وصرامة تنفيذ الأنظمة والقوانين ومن دون وساطة.
وقد اهتم الكثير من الكتاب ورجال الإصلاح بمشكلة الفساد. فقد علق الصحفي النمساوي كارل كروس على موضوع الفساد فقال: «الفساد أسوأ من البغاء، فالأخيرة تؤثر على أخلاقيات فرد ما، أما الأولى فتحطم أخلاقيات أمة بكاملها». كما كتب روائي القرن العشرين الكاتب البريطاني جراهام جرين فقال: «لقد لاحظت أن الرشوة تغير العلاقة بين الرجال. فالرجل الذي يقدمها، يخسر جزءا من أهميته، والرجل الذي يقبلها يصبح واطئا، كالرجل الذي يدفع له للبغاء». وهناك الكثير من الكتابات عن الفساد في ثقافتنا الإسلامية ولا نحتاج إلى تكراره.
ومن الظواهر الجديدة للفساد الصغير في الأسواق الأمريكية هي سرقات التسوق. وقد ذكرت الصحافة الأمريكية أن شركة ولمارت للمبيعات تخسر أكثر من أربعة مليار دولار سنويا بسب سرقات المشترين. ويقدر أن مجموع السرقات الصغيرة في الأسواق الأمريكية تصل إلى أكثر من أربعين مليار دولار سنويا، ومن سيدفع ثمن هذه السرقات غير الإنسان العادي الذي يذهب للتسوق، حيث ستضاف على مصاريف فاتورة الشراء؟
ومن أسوأ ما ورثته مجتمعات العالم الثالث من الاستعمار، هو مشكلة الفساد، فقد ثبت أن الفساد سبب هام لاستمرار الفقر والجريمة في دول غنية بمواردها الطبيعية، ولكن يضيع غناها بين الرِّشا، وصناعة الحروب. ومع أن الفساد الكبير خطِر جدا، ولكنه محدود بين فئة مجتمعية صغيرة، ولكن الفساد الصغير هو ظاهرة مجتمعية عامة ودمار لأخلاقية المجتمع بأكمله، والمثل المعروف للفساد الصغير في مجتمعاتنا العربية هي الوساطة، التي تعني سرقة فرص الغير. ولنضرب مثلا عن مدى خطورة هذه الظاهرة في مجال التعليم. ولنفترض أن هناك وساطة في إحدى المجتمعات في توزيع البعثات الدراسية، ويكتشف طالب أن الطالب الأقل منه كفاءة يحصل على البعثة الدراسية مكانه، فما هي نتائج هذا الفساد الصغير؟ أولا، لن يحس الطالب المتلقي للبعثة بقيمتها، كمن يحصل على الأموال من القمار، وثانيا لن يحترم قيادته وطبعا سينافقها، وثالثا سيتصور أن مستقبله لا يعتمد على عمله وإخلاصه، بل عليه تعلم الفهلوة لبناء المستقبل. وتصور عزيزي القارئ لو اعتمد مستقبل شباب أمة على الفهلوة فما هو مصيرها؟ أما الطالب المظلوم الذي خسر البعثة التي يستحقها، سيفقد ثقته بقيادته وحكومته وشعبه، وسيعيش تعيسا حاقدا وحاسدا. ولنتصور ما مصير المجتمع الذي يتربى شبابه على الحقد والانتقام، الذي قد تتلقفه خلايا الجريمة والإرهاب؟
لذلك تهتم الحكومات الديمقراطية بتحديد وتنفيذ المعايير الدقيقة اللازمة لاختيار الطلبة في دخول الجامعات والكليات التكنولوجية، وللحصول على البعثات والمنح. ويعتمد القبول للجامعة على المستوى الأكاديمي للطالب، وتقييم أساتذته، ونتائج امتحان العام لوحدة المعايير، ونشاطاته غير الأكاديمية، واهتماماته المجتمعية، والأسئلة الشخصية الكتابية، ولا تعطى أهمية تقييمه للمقابلات الشخصية الشفهية لدخول الجامعة، لأنها شخصية ولا يرافقها تقييم موضوعي. كما أن اختيار الطالب للدخول للجامعة لا علاقة له بإمكانياته المادية، فحينما يقبل الطالب، تحاوره الجامعة عن كيفية تغطية مصاريفه الدراسية. فإذا كانت إمكانياته المادية جيدة فليس له حق في أي مساعدة مالية أو بعثة، أما الطالب المحتاج فتغطى مصاريفه من خلال المنحة الدراسية الجزئية، وعمله في الخدمات الجامعية، ودين يدفعه بعد التخرج، وحوالي نصف طلبة الجامعات الأمريكية يحصلون على منح لا تزيد عادة على نصف المصاريف، ويغطي الطالب وعائلته الجزء الآخر.
الجدير بالذكر أن معظم الجامعات الغربية تعتمد على المساعدات المالية من التجار وخريجي الجامعة، وتقدر هذه المساعدات بالمليارات من الدولارات. كما أن الكثير من الجامعات المشهورة أنشأها رجال الأعمال وتبرعوا برؤوس أموال طائلة لاستمرارها.
والسؤال لعزيزي القارئ: هل من الممكن، في مجتمعاتنا العربية، أن نتخلص من الفساد الكبير قبل أن نتعامل مع معضلة الفساد الصغير؟ وهل نحتاج إلى دراسات إحصائية صادقة عن مدى انتشار هذه الظاهرة، وأسبابها، وطرق معالجتها؟ وهل من الضروري أن يبدأ كل منا بإصلاح نفسه وعائلته قبل البدء بإصلاح المجتمع بأكمله؟ وهل سنركز على علاج هذه الظاهرة في التعليم لنوفر المستقبل المشرق لوطننا العربي الكبير؟
* سفير مملكة البحرين في اليابان