الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٦ - الاثنين ٩ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ١٩ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)


موسكو بوابة حل الأزمة السورية





مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

لم يعد يخفى على أحد بعد أكثر من ١٥ شهرًا من اندلاع الأزمة السورية أن مفتاح الحل الدولي لهذه الأزمة يوجد لدى موسكو التي عزمت أن تؤكد عودتها كقطب رئيسي في السياسة الدولية لا يمكن تجاهله حتى ولو كان هذا على حساب دماء عربية يتم سفكها في الأرض السورية سواء بفعل النظام السوري أو بفعل معارضيه، وروسيا التي وافقت قبلاً في مجلس الأمن الدولي على تدخل الناتو في ليبيا لحماية المدنيين إذا بها تعطل هذا المجلس عن التدخل الدولي في الأزمة السورية، والحرب الباردة التي جرى بعض فعالياتها على الأرض العربية بين موسكو وواشنطن لنحو أربعة عقود أخذت تطل برأسها من جديد وتدخل المنطقة العربية من بوابة الأزمة السورية، ومن يسعى عربيَّا لحل هذه الأزمة عليه أن يقرأ تغيرات المشهد الدولي بدقة ويبحث في موسكو عن هذا المفتاح، هكذا ارتطمت المبادرات العربية التي تقودها وتبلورها المنظومة الخليجية داخل أروقة الأمم المتحدة، وبوجه خاص مجلس الأمن الدولي، حين أغفلت الدبلوماسية العربية توظيف ما لديها من أوراق تستطيع بها التأثير في روسيا الجديدة، واكتسب النظام السوري الذي يستند ظهره للموقف الروسي قوة ممانعة جعلته يربح وقتًا ويهرب من العقوبات الدولية، بل يزداد مناعة في وجه معارضة مشتتة لم تنجح إلى الآن كما ثبت في مؤتمر القاهرة الذي انعقد مؤخرًا في تنظيم وتوحيد صفوفها، بما يروج حجة أن سقوط النظام مؤداه التنافر بين أطياف هذه المعارضة ومن ثم تسليم سوريا إلى الفوضى التي لا تهددها فقط وإنما تهدد جيرانها أيضًا، بل قد تؤدي إلى وقوع أسلحة دمار شامل كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية الموجودة بحوزة النظام في أيدي جماعات إرهابية، وإذا كانت روسيا قد خرجت خالية الوفاض من أسلوب تعاملها مع أحداث الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا فإنها تسعى إلى تغيير هذا الأسلوب في الأزمة السورية إلى أن تجني أقصى ما تستطيع من مكاسب متعللة أنها تدافع عن مبادئ.

وحين رأت موسكو أن واشنطن في الأزمة السورية تسعى لإزالة نظام الأسد حليف إيران الذي لم يقدم تسهيلات بشأن تسهيل عملية السلام حسب الرؤية الأمريكية، ولأنه نظام داعم لحزب الله وحماس المصنفين أمريكيا كمنظمات إرهابية تشكل خطرًا على إسرائيل، فقد سعت موسكو لتعويض ما خسرته في ليبيا؛ حيث ظهرت متخاذلة عن دعم حليف قوي لها وتركت ليبيا بعد القذافي لاستئثار القوى الغربية بها، وذلك من خلال موقفها المعارض للإطاحة بنظام يوفر لها حضورًا في ملف الشرق الأوسط بكل أبعاده، كما يوفر لها قاعدة عسكرية بحرية، وحمايته هي دعم لإيران شريكها في المشروع النووي، فضلاً عن أن سوريا واعدة في مجال الطاقة، فيما كشفت عنه من عمليات التنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط، ولم تكتف روسيا بتعطيل صدور قرار عن مجلس الأمن يدين النظام السوري أو يفتح الطريق لحل دولي للأزمة السورية، بل دعمت هذا النظام عسكريٌّا بشحنات مستمرة من الأسلحة والصواريخ المتقدمة وتعزيز وجود حاملة الطائرات والسفن الحربية الروسية في المياه السورية، ومنذ بداية الأزمة السورية والموقف الروسي يحمل النظام والمعارضة مسؤولية تدهور الوضع الأمني ويدعو إلى بدء حوار سياسي بينهما لإيجاد تسوية سلمية للصراع، فيما يحمل الموقف الغربي النظام هذه المسؤولية ويسعى إلى تغيير

وتبني روسيا موقفها على حسابات المصالح وليس على اعتبارات أخلاقية أو مبدئية، وليس أيضًا على أساس نقص المعلومات، وهي ترى في إسقاط النظام السوري مقدمة لشن الحرب على إيران. وفي أحداث الربيع العربي ساحة لعب أمريكية بريطانية فرنسية ؟ تركية قد تمتد إليها في القوقاز وروسيا نفسها، إلى هذا منذ أن أخذ الوضع السوري طريقه إلى مجلس الأمن استخدمت روسيا حق الفيتو في ٥ أكتوبر ٢٠١١ لمنع صدور قرار يدين النظام السوري، وفي المقابل قدمت مشروع قرار في ديسمبر من العام نفسه يدين العنف من جانبي النظام والمعارضة على حد سواء، الأمر الذي رفضته الدول الغربية، ورفضت روسيا بشدة أي تدخل عسكري دولي في سوريا عبر مجلس الأمن أو خارجه، وأكدت التسوية السياسية السلمية للأزمة الداخلية من قبل السوريين أنفسهم عن طريق وقف أعمال العنف بغض النظر عن مصدره، وإطلاق الحوار بين السلطات والمعارضة وفقًا لمبادرة جامعة الدول العربية بدون شروط مسبقة.

وبعد إخفاق مشروع القرار الروسي في ديسمبر ٢٠١١ قدمت روسيا مشروعًا آخر في يناير ٢٠١٢ حمل تغييرات طفيفة على مشروعها السابق، واستمرت تعارض بشدة أي تدخل في الأزمة السورية، كما ترفض فرض حظر من قبل مجلس الأمن حول تسليم الأسلحة إلى سوريا، وقد رفض الغرب هذا المشروع.

وقد كان الارتباط واضحًا في الموقف الروسي من الأزمة السورية وهذا الموقف من الأزمة الإيرانية؛ حيث عارضت روسيا استراتيجية العقوبات التي يتبعها الغرب مع الدولتين، وانتقدت العقوبات الجديدة التي ينوي الغرب فرضها على إيران بما في ذلك الحظر النفطي، وأن هذه العقوبات تنسف المحادثات من قبل أن تبدأ ولن تسهم في تحسين الأجواء أو تصل بالمحادثات إلى نتائج مثمرة، في الوقت نفسه دافعت روسيا عن علاقاتها التجارية مع سوريا التي تدخل فيها مبيعات الأسلحة، ومن المعلوم أن أي نظام للعقوبات حتى يحدث أثره لابد أن يكون شاملاً، وإلا فإن العقوبة تقع آثارها السلبية على من يفرضها.

والسؤال هنا: لماذا تغامر روسيا بعلاقاتها الاقتصادية القوية مع أوروبا باتخاذ موقف مغاير في الأزمة السورية، علمًا بأن حجم علاقاتها التجارية مع سوريا وهو في حدود ملياري دولار لا يبرر هذا الموقف؟

إن الإجابة تكمن في سعي روسيا إلى الاعتراف لها بدور استراتيجي جديد، دور يتعاطى معها على أن روسيا بوتين ليست هي روسيا يلتسين.

وإذ أدركت سوريا النظام صلابة الموقف الروسي الداعم لها استمرت على نهج الحل الأمني وتعاملت مع المبادرات العربية باستخفاف، ووصم المعارضة بالإرهاب الذي ينبغي قمعه بقوة، وهي المعارضة التي مع تفككها أعربت تصرفاتها عن أنها متشككة في قدرة الجامعة العربية على الحل وفقدانها قوة الإلزام التي تدفع نظام الأسد لقبوله، وهذا الموقف هو الذي أخذ يدحرج الأزمة السورية في اتجاهين متناقضين مع المصالح السورية والمصالح العربية بوجه عام، وهما اتجاه الحرب الأهلية واتجاه تدويل الأزمة السورية التي عرفت مسارها إلى مجلس الأمن، ولم تفلح الضغوط الغربية في حمل روسيا على تغيير موقفها رغم أنها ظلت القوة الدولية الوحيدة الداعمة لنظام الأسد، فظلت آلية مجلس الأمن معطلة، وأخذت أهمية العمل الدبلوماسي مع موسكو في التصاعد سواء من جانب القوى الدولية أو الإقليمية.

ومع رفض روسيا فرض عقوبات اقتصادية من جانب الأمم المتحدة على غرار العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استمرت تعارض أي تدخل أحادي الجانب أو عسكري في سوريا، بما في ذلك رفضها الاقتراح القطري إرسال قوات ردع عربية لدمشق، كما استمرت روسيا تبيع طائرات متقدمة لسوريا «باك ١٣٠» وتقوم بمناورات بحرية لاستعراض القوة في المتوسط، كما أبدت مرونة فيما يتعلق بحل وسط، وهو الحل الذي يعني تغييرا في النظام مع بقائه وليس تقويض النظام كلية، ومع رفض دمشق المبادرة العربية التي أطلقت في ٢٢ يناير ٢٠١٢ والتي دعت إلى حل الأزمة السورية على الطريقة اليمنية ومعارضة دول عربية تدويل الأزمة، زاد عنفوان الموقف الروسي المساند لنظام الأسد، ولم يظهر أن الولايات المتحدة المنشغلة بأزمتها الاقتصادية قد قدمت لموسكو الثمن الذي يكفي لتغيير موقفها، وأعلنت روسيا صراحة على لسان نائب وزير خارجيتها أنها لن تدعم أي مشروع قرار في مجلس الأمن يدعو بشارا إلى التنحي، ذلك أن هذا التنحي هو شأن داخلي فقط، وهو يشير بذلك إلى مشروع نقل صلاحيات الرئيس السوري لنائبه، ورأت روسيا في نقل جامعة الدول العربية الملف السوري لمجلس الأمن إنقاصًا لمصداقية الجامعة، وأدانت تعليق مهمة المراقبين العرب ورأت في ذلك التصرف إجهاضًا لفرص التهدئة، وأخذت تطرح نفسها وسيطًا بين السلطات السورية والمعارضة بعرضها استضافة محادثات بينهما في موسكو.

ورغم التغيرات التي طرأت نتيجة المناقشات الطويلة على المشروع العربي الغربي في مجلس الأمن الذي تقدمت به المغرب وخلفها الجامعة العربية، وهي التغييرات التي سعت لاسترضاء روسيا؛ حيث تم إغفال التطرق إلى تفاصيل عملية انتقال السلطة، فقد استخدمت موسكو حق الفيتو المرة الثانية في ٤ فبراير ٢٠١٢ للحيلولة دون إدانة النظام السوري، وأخذت تسعى لدى الأسد للقيام بإصلاحات ديمقراطية، ليصبح الفيتو الروسي أكبر غطاء للنظام السوري في ممارسة أعمال القمع، وعلامة قوية على عودة الحرب الباردة من جديد، ولكن هذا الموقف الروسي زاد من منطقية المطالبات بتسليح المعارضة نتيجة جمود العملية السياسية وإضعاف فرص الحل السلمي وهو ما يؤدي إلى توسيع دائرة العنف، كما زاد من أهمية البحث عن مفتاح حل الأزمة السورية في موسكو، مع تضييق الخناق العربي على النظام السوري، ومحاولة نقل الملف السوري إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أن العقوبات العربية لن تكون مجدية في ضوء الحدود السورية المفتوحة مع العراق وتركيا ولبنان والأردن التي تصعب السيطرة عليها، كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تصدر توصيات ولا تصدر قرارات، وبعد الفيتو الروسي في ٤ فبراير ٢٠١٢ كان القرار العربي الأمريكي الأوروبي بسحب السفراء من دمشق، وكانت تصريحات ماكين الداعية لتسليح المعارضة، كما كانت مبادرة ساركوزي بإطلاق مجموعة أصدقاء الشعب السوري، أي تكثيف الجهود خارج مجلس الأمن.

وبعد أسبوعين من الفيتو الروسي تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة المطلب العربي بشأن الملف السوري الذي حصل على تأييد كاسح (١٣٧ دولة من أصل ١٩٣ دولة في الجمعية العامة) ولكن هذه النتيجة رفضتها روسيا، كما أن رفض روسيا المشاركة في مؤتمر أصدقاء سوريا الذي انعقد في العاصمة التونسية في ٢٤ فبراير ٢٠١٢ وهو ما تكرر مع ذات المؤتمر في اسطنبول في أول ابريل ٢٠١٢ على خلفية عدم دعوة ممثلي الحكومة السورية قد جعل من هذا المؤتمر أقرب إلى منتدى مناشدة لا أكثر، واقترحت موسكو في الوقت نفسه أن يوفد الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثًا خاصٌّا من أجل تنسيق الجهود مع الحكومة السورية وكل الأطراف الأخرى بشأن القضايا الأمنية وإرسال المعونات الإنسانية لسوريا.

ومع الامتناع الغربي عن التدخل العسكري، وتفكك المعارضة، وعقم التدخل العربي، ورفض تركيا أن تكون ممرًا إنسانيٌّا، وهي الممرات التي ترفضها روسيا ظهر الموقف الروسي على أنه الموقف الأقوى، وقبل انعقاد مؤتمر تونس بيوم واحد كان تعيين كوفي عنان مبعوثًا مشتركًا للأمم المتحدة والجامعة العربية للأزمة في سوريا، الأمر الذي رحبت به روسيا لأنه ينسجم مع طرحها لكيفية حل الأزمة الذي يعارض استغلال الأمم المتحدة كأداة لتغيير الأنظمة واستخدام القانون الدولي كستار للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ووجدت روسيا في مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس أنه ذو طابع أحادي لا يساعد على توفير شروط تحفز جميع الأطراف إلى البحث عن حل سياسي للأزمة، وقد أكد الإعلان الصادر عن المؤتمر المشترك بين وزير الخارجية الروسي ونظرائه العرب في مقر جامعة الدول العربية القاهرة في ١٠ مارس ٢٠١٢ حرص روسيا على الحل، ولكنه الحل الذي يأتي من بابها، فقد خرج هذا الاجتماع بالاتفاق على خمسة أسس لتسوية الأزمة وهي: وقف العنف أيا كان مصدره- إنشاء آلية رقابة محايدة - لا تدخل خارجي - إتاحة المساعدات الإنسانية لجميع السوريين - الدعم الكامل لجهود الموفد الدولي كوفي عنان استنادًا إلى المرجعيات التي تمثلها الأمم المتحدة والجامعة العربية، وهي من وجهة نظر موسكو حل في النظام وليس حلا بالإطاحة به، واستمرت روسيا بعد هذا الاجتماع تدعم نظام الأسد، فيما يعني أن سوريا قد غدت ساحة مواجهة شرق غرب أكثر من كونها أزمة داخلية بين حكومة ومعارضة، ومع تأييدها لجهود عنان إلا أنها ترفض تحديد سقف زمني لمهمة هذا الموفد، ولم يكن البيان الرئاسي الذي أصدره مجلس الأمن في ٢١مارس ٢٠١٢ ووافقت عليه روسيا والذي ليس له قوة القرار الرسمي غير مطالبة سوريا بالتعاون في تنفيذ مهمة كوفي عنان، ورغم ذلك فقد حذفت منه أي لهجة إنذارية للأسد، واستمرت روسيا تؤكد ضرورة وقف المساعدات الخارجية للمعارضة.

وبرغم المشاركة الواسعة في مؤتمرات أصدقاء سوريا وتعدد المنظمات الدولية والإقليمية التي حضرتها فان انعقاد هذه المؤتمرات في غيبة الحكومة السورية وغيبة روسيا التي بدا منذ أن بدأت جهود الخارج في التعامل مع الأزمة السورية أنها حجر الزاوية في الخروج بحل يجرى تنفيذه على الأرض، قد جعل من هذه المؤتمرات منتديات للمناشدة ليس إلا، غير أنه في أعقاب مؤتمر اسطنبول حدث تغير نوعي في الموقف الروسي حين طالب وزير الخارجية الروسي الرئيس السوري بالمبادرة إلى سحب قواته أولاً من المدن السورية وقبل أن تبدأ المعارضة، غير أن هذه المطالبة خلت من أي نوع من أنواع الضغط، كما أنه صاحبها رفض ذات الوزير تحديد أي مهلة أو إنذار بشأن مهمة كوفي عنان، مع التأكيد أن روسيا تقف على مسافة واحدة بين المعارضة والنظام على خلاف ما تراه من مواقف غير محايدة من الغربوقد أظهرت تطورات أحداث الأزمة السورية أهمية البعد الدولي لحل هذه الأزمة، وأهم عناصر هذا البعد الدولي هو موقف موسكو الذي يتعين تليينه وجعله مطواعًا قبل الحديث عن أي حل، فالحل الذي لم يختبر مع روسيا ولم يتم التوافق عليه مسبقًا معها يصبح ضربًا من الأماني ليس إلا، ورغم البيانات الرئاسية العديدة التي أصدرها مجلس الأمن في أغسطس ٢٠١١ ومارس وإبريل ٢٠١٢ وقراره في إبريل ٢٠١٢ إرسال بعثة مراقبين دوليين، والتزام الحكومة السورية بمبادرة كوفي عنان،فانه بفضل الدعم الروسي تمكنت الحكومة السورية من انتزاع اعتراف من مجلس الأمن بوجود جماعات مسلحة تمارس العنف كما نجحت في شطب أي مبادرة تنص على رحيل النظام السوري، الأمر الذي استمر حتى مؤتمر جنيف آخر يونيو الماضي.. وهكذا بات أنه من قبيل استهلاك الوقت وإطالة أمد الأزمة التي أصبحت مرشحة للسير على غرار أزمة الحرب الأهلية اللبنانية إغفال التعامل مع حقيقة أن مفتاح الحل موجود في موسكو ويجب البحث عنه هناك.































.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

الأعداد السابقة