تساؤل مشروع حول التزامات مصر الخارجية
 تاريخ النشر : الثلاثاء ١٠ يوليو ٢٠١٢
بقلم: فهمي هويدي
لا ينافس هموم مصر الداخلية في الجسامة وشدة الوطأة سوى همّ الخارج. ذلك أن الاستبداد الذي تسلط على البلد لم يكتف بإهانة المواطنين، وإنما أهان الوطن أيضا. وحين أهينت مصر فإن العرب أصبحوا بلا وزن وبلا كرامة.
حين وقعت مصر اتفاقيات السلام مع إسرائيل في عام ١٩٧٩ فإن ذلك كان إشهارا لانكسارها وبداية لانكفائها. وحين انكفأت فإنها دخلت في طور الانحسار والصَّغار الذي حول رئيسها في نهاية المطاف إلى كنز استراتيجى لإسرائيل وليس لوطنه أو أمته، وكانت تلك ذروة المهانة التي أخرجت مصر والعرب أجمعين من المعادلة الدولية، وأخضعتهم لوصاية الدول الكبرى من الناحية العملية. وترتب على ذلك أن صار العالم العربي سفينة بلا ربان وجسما بلا رأس. وحينئذ تمت استباحته، حتى أصبح ساحة مفتوحة للعربدة والغارات والفوضى.
فجرى اجتياح لبنان وضرب المفاعل العراقي واحتلال الكويت ثم غزو العراق والانقضاض على غزة وانفصال جنوب السودان والاستفراد باليمن، ذلك بخلاف انطلاق عمليات التهويد والاستيطان في فلسطين.. إلخ. ولم يكن الانقلاب مقصورا على الخرائط السياسية فحسب، وإنما شمل الانقلاب منظومة القيم السائدة أيضا. فتراجعت قيم الاستقلال الوطني والمقاومة والتنمية الذاتية والانتماء للأمة العربية، في حين صار «الاعتدال» المغشوش نقيضا لكل ذلك، وعنوانا لكل ما من شأنه الارتماء في أحضان السياسة الأمريكية والتطبيع ــ التواطؤ إن شئت الدقة ــ العلني والسري مع إسرائيل، إلى جانب تكريس القطرية وإعلاء شأن القيم الاستهلاكية من خلال الانفتاح الذي لا ضابط له أو رابط.
الخلاصة أن مصر دفعت ثمنا باهظا جراء انكفائها، ودفع العرب ثمنا غاليا جراء غيابها. وهو ما يؤكد المعنى الذي تحدث عنه الدكتور جمال حمدان في مؤلفه الكبير «شخصية مصر»، حين قال إن مصر ظلت «مفتاح العالم العربي، إن سقطت سقط وإذا فتحت فتح. لذا كان الاستعمار دائما يركز ضربته الأولى والقصوى على مصر، ثم ما بعدها فسهل أمره. هذا ما أدركته وفشلت فيه الصليبيات (الحرب الصليبية) وتعلمه الاستعمار الحديث. فكان وقوع مصر سنة ١٨٨٢ (تحت الاحتلال البريطاني) بداية النهاية لاستقلال العالم العربي. بينما جاء تحرر مصر الثورة بداية النهاية للاستعمار الغربي في المنطقة بل في العالم الثالث جميعا». ولأنه انتهى من الكتاب قبل توقيع اتفاقية السلام، فلست أشك في أنه كان سوف يستشهد أيضا بما جرى لمصر والعالم العربي من انكسار وتراجع بعد توقيع الاتفاقية، التي شكلت منعطفا فارقا في تاريخ المنطقة.
حين استردت مصر كرامتها ووعيها بعد ثورة ٢٥ يناير كان طبيعيا أن تسعى لكى تسترد أيضا مكانتها وموقعها الذي غابت عنه طويلا. وذلك ليس أمرا هينا لأنه يعنى محاولة تغيير الخرائط التي صممت والاستراتيجيات التي رسمت منطلقة من التسليم بأن مصر الكبيرة كبلت وتقزمت، وجرى ترويضها وحبسها في قفص «الاعتدال». ومن يطالع الصحف الإسرائيلية وبعض الأمريكية طوال الأشهر التي خلت يدرك مدى الحيرة التي انتابت دوائر صنع القرار في البلدين جراء عودة الروح إلى مصر من حيث لا يحتسبون.
إن استعادة مصر لموقعها الذي ظل شاغرا طوال الأربعين سنة الأخيرة هى المعركة التالية التي على الثورة أن تخوضها. بكل ما تملك من كبرياء وجسارة. وغنى عن البيان أن ذلك يظل مشروطا بكسب معركة ترتيب البيت من الداخل وتثبيت أركانه، التي هي في حقيقة الأمر «أم المعارك» بامتياز. إن شئت الدقة فقل إن استعادة المكانة معركة مؤجلة إلى حين الانتهاء من لملمة الصفوف وتحقيق التوافق الوطني واستعادة مصر لبعض عافيتها المجهضة والمهدورة. وذلك لا يلغى أهمية أن تكون لمصر سياسة خارجية مستقلة وواضحة المعالم. ولست واثقا من إدراك اللاعبين في الداخل لأهمية الإسراع باستيفاء تلك الشروط، لكنني على يقين من أن المراقبين والمخططين في الخارج يعرفون جيدا أن عودة الروح إلى مصر بمثابة بداية النهاية لنفوذهم فيها، الأمر الذي يهدد مستقبلهم في العالم العربي بأسره. ذلك أن مصر المغيَّبة والمنبطحة في نظرهم هي مصر النموذجية التي تضمن مصالحهم وتؤمن تطلعاتهم.
إذا قلنا إن تماسك الجبهة الداخلية وتعافيها شرط يجب توافره قبل فتح ملفات الخارج، إلا أن ذلك وحده لا يكفي، وإنما ينبغي أيضا توفير شرطين آخرين مهمين للغاية هما استقلال الإرادة الوطنية، ووضوح الرؤية الاستراتيجية التي تحدد دوائر الحركة وتتحرى المصالح العليا للوطن والأمة، وهو المثلث الذي جرى تقويضه بالكامل في ظل النظام السابق، فالجبهة الداخلية لم تكن في الحسبان، والقرار السياسي ظل مرتهنا ولم يكن مستقلا، أما الرؤية الاستراتيجية فقد ظلت حبيسة الارتباط بالولايات المتحدة والتحالف مع إسرائيل.
أذكِّر بأن السياسة الخارجية تعد امتدادا للسياسة الداخلية، وأشدد على أننا لن نستطيع أن نفتح ملف العلاقات الخارجية الشائكة والمعقدة إلا إذا اطمأننا على استقرار وضع الداخل، وبغير ذلك فإن مصر ستظل الطرف الأضعف في أي تعامل مع الخارج. علما بأن الكلام عن فتح الملف لا يعني بالضرورة اشتباكا ولا عراكا من أي نوع. ولكنه يعني عند الحد الأدنى التصرف بكرامة والاهتداء بالمصلحة الوطنية العليا في رسم السياسات وتحديد المواقف، وإقامة العلاقة مع الآخرين من موقع النَّدية وعلى أساس من الاحترام المتبادل.
الملف متخم بالعناوين، التي يتعلق بعضها بأولويات السياسة الخارجية، والدوائر التي تتحرك في إطارها (العربية والإفريقية والإسلامية). والتحالفات والقوى التي يتعين الاتكاء عليها، لكنني سوف أركز على بعض العناوين التي يختبر فيها استقلال الإرادة الوطنية ووضوح الرؤية الاستراتيجية، وفي مقدمة تلك العناوين علاقات مصر بالولايات المتحدة وإسرائيل وعلاقاتها مع العالم العربي ومع كل من تركيا وإيران.
أزعم أن العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل أحوج ما تكون إلى تحرير، للتعرف على حدودها وحقيقتها، لأن ثمة لغطا مثارا حول تعهدات واتفاقات بعضها معلن والبعض الآخر غاطس وغير معلن، الأمر الذي يثير أكثر من سؤال حول هامش الحركة المتاح أمام الإرادة المصرية.
في هذا الصدد استوقفني أمران هما:
حديث الاستاذ محمد حسنين هيكل يوم ٢١/٥ الماضي على شاشة تليفزيون «الحياة» الذي دعا فيه إلى إعادة النظر في التنسيق الأمني القائم بين مصر وإسرائيل، كما ذكر أنه ليس معقولا ولا مفهوما أن تكون مصر هي أهم مصدر يزود إسرائيل بمعلومات عن العالم العربي (!؟)، التقرير الذي نشره في ٢٥ يونيو الماضي معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، للدكتور عوديد عيران وقال فيه إنه إزاء الغموض الذي يحيط بموقف الرئاسة المصرية إزاء الملحق الأمني لاتفاقية السلام، فليس أمام إسرائيل سوى أن تجري اتصالاتها مع الجيش المصري فقط، دون أن تخاطب المستوى السياسي الذي ستتركه للأمريكيين.
المعلومتان من الخطورة بمكان، ذلك أن مسألة التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل تحتاج إلى ضبط وإيضاح، ثم إن موضوع التنسيق وهدفه يجب أن يفهم جيدا للتعرف على مدى مساسه بالأمن القومي العربي. من ناحية أخرى يظل مدهشا ومستغربا للغاية أن تجرى إسرائيل اتصالات مباشرة مع قيادة الجيش المصري دون المرور على المستوى السياسي (هل يدخل ذلك ضمن التنسيق الأمني؟) ، وكأن الجيش دولة أخرى منفصلة عن جمهورية مصر العربية.
تلك مجرد «عيَّنة» تسلط الضوء على جانب من الجزء الغاطس في علاقات مصر بإسرائيل التي ترعاها واشنطن وتقف في قلبها. الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة التعرف على بقية جوانبه، حتى نكون على بينة من حقيقة الالتزامات التي ورطنا فيها الرئيسان السابقان وهما ينسجان خيوط العلاقة مع إسرائيل.
موضوع معاهدة السلام بالغ الدقة والحساسية، ويتعين التعامل معه بمنتهى اليقظة والحذر. ذلك أنه لا مجال للحديث في ظل موازين القوى الحالية عن تعديل المعاهدة ناهيك عن إلغائها، رغم أنه لا توجد معاهدات أبدية تظل سارية كما هي في ظل كل الظروف والمتغيرات. مع ذلك فلمصر أن تطلب إعادة النظر في ترتيبات الأمن في المناطق الحدودية، وهو ما تسمح به المعاهدة. كما أن لها أن تتساءل عن وفاء إسرائيل بالتزاماتها فيها. وبعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على توقيعها من حقها أن تدرس ما إذا كانت المعاهدة قد ساعدت على إقامة السلام المنشود، أم أنها استخدمت كستار وقناع لمواصلة سياسة إسرائيل الاستيطانية والتوسعية. ولأن مصر ليست محايدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين ولأسباب متعلقة بأمنها القومي، فلها أن تتساءل أيضا عن مصير واحتمالات إقامة الدولة الفلسطينية، كما أن لها أن تتحلل من إسهامها المشين في حصار غزة.
إذا أخرجنا إسرائيل من سياق العلاقة مع الولايات المتحدة، وهو أمر صعب وربما كان مستحيلا في الأجل المنظور، فإن العلاقة مع الولايات المتحدة لا يستطيع أحد أن يشك في أهميتها، إلا أن عافية مصر بعد الثورة هي التي ستحدد بمضي الوقت ما إذا كان بمقدورها أن تحتفظ معها بصداقة بريئة قائمة على تبادل المنافع أم أنها ستتراجع وتقيم معها علاقة تحالف وشراكة أم ستبقى أسيرة الإلحاق والتبعية. علما بأننا نتوقع من مصر الجديدة أن توسع من دائرة تحالفاتها، وأن تمد بصرها صوب الشرق بحيث لا يظل الغرب وواشنطن على رأسه قبلتها الوحيدة.
إذا تحدثت عن المثلث الذهبي في العالم العربي فسوف يتجه بصرك على الفور صوب مصر والسودان وليبيا. وإذا تحدثت عن مثلث القرار السياسي فستجده مشتركا بين مصر وسوريا والسعودية. وإذا نظرت إلى البيت العربي الكبير فستجد مصر حجر الأساس فيه. أما إذا بحثت عن مثلث القوة في منطقة الشرق الأوسط بأسرها فستجده متمثلا في مصر وتركيا وإيران.
هكذا فحيثما وليت وجهك ستجد مصر هناك. إذا حضرت اكتمل عقد مثلثات العافية والقوة واستقام أمر البيت الكبير، وإذا غابت انفرط كل عقد واهتزت قواعد البيت حتى صار آيلا للسقوط. إلا أن هذه الصورة تعكرها ثلاثة أمور هي: الوصاية الأمريكية الجاثمة على المنطقة ــ تعقيدات العلاقة مع إيران ــ التردد والالتباس في العلاقة مع تركيا. وتلك عناوين مهمة تستحق أن نفصل فيها الأسبوع المقبل بإذن الله.
.
مقالات أخرى...
- نريد رئيسًا يصدمنا ولا يلاطفنا - (3 يوليو 2012)
- استعدنا أتاتورك وليس أردوغان! - (26 يونيو 2012)
- «الربيع العربي».. من المد إلى الجزر - (19 يونيو 2012)
- سؤال الدولة العميقة في مصر - (12 يونيو 2012)
- بين كراهية «الإخوان» ومحبة الوطن - (5 يونيو 2012)
- «الإخوان» مطالبون بطمأنة الجميع - (29 مايو 2012)
- انتخابات في ظلال الخوف - (22 مايو 2012)
- حديث المناظرة - (15 مايو 2012)
- دروس تونسية في قراءة الحالة المصرية - (8 مايو 2012)