الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٢٨ - الأربعاء ١١ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٢١ شعبان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

قضايا و آراء


ماذا وراء الدعوات إلى تشكيل مرجعيات مذهبية في العراق؟





سنَّة الله في حياة الشعوب والأمم منذ بدء الخليقة ارتكز امتدادها على جهد موجات بعثات السماء للأنبياء والرسل لتبليغ الخلق بالنهج السليم والطريق القويم للنهوض والبقاء كلما وأينما احتاجت الخليقة والمجاميع البشرية إلى الإصلاح والنهوض على وفق تعاقب ظهور الرسالات والأديان التي اختتمت برسالة النبي الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين وكتابه القرآن الكريم للعالمين، مما يثبت عمومية هذه الرسالة وشمولية هذا القرآن لكل زمان ومكان حتى قيام الساعة. وفي ضوء ما تواتر في الحديث النبوي الشريف فإن خاتمية الرسالة المحمدية تؤكد ان ظهور المصلحين والمجددين في الأمة بتعاقب القرون يعد امتدادا وسنة سماوية في تاريخ الأمم.

يكاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم يكون النبي الوحيد الذي اختص بنجاح فائق في إبلاغ الرسالة بفترة ثلاثة وعشرين عاما من إنجاز المهمة وتحقيق الانتصار والاستجابة للدعوة في مهبط الرسالة قبل أن يتوفاه الله، وبدأت معالم انتشار الإسلام في الجزيرة ومن ثم في مواطن العرب الأخرى ليكون العرب حملة الرسالة ودعاتها بين الأمم والشعوب التي دخلت في الإسلام.

لم يشر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند وفاته ولم يوص بمن سيخلفه ولا عن طبيعة المرجعية الدينية التي ستختار الخليفة من بعده، كما لم يوص أي من الخلفاء الراشدين بمن سيخلفه، والامام علي عليه السلام لم يوص للحسن قبل وفاته، إذ قيل له (ألا تستخلف علينا؟ قال ما استخلف رسول الله فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا سيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم).

ومن المؤكد أن القرآن الكريم والموثوق من الحديث الشريف لا يحويان نصا صريحا ولا حتى اشارة واضحة لمن سيعقب النبي أو يخلفه كمرجعية دينية سياسية أو شرعية. وتم تعاقب الخلفاء الراشدين على وفق منهجية التصويت في المدينة بين نخبة المسلمين الأوائل (أهل الشوكة على رأي ابن تيمية)، وليس بالضرورة أن يحصل الخليفة على الإجماع واختلفت بيعة الخلفاء الراشدين الأربعة في صيغ تحقيقها ولم تكن على وفق صيغة واحدة ولا وفق مرجعية واحدة.

كانت حادثة اغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بسبب فتنة كبيرة أسست لمعارك لاحقة وأحدثت شرخا كبيرا وتمت البيعة بعد مقتله إلى الإمام علي (رضي الله عنه) من دون منافس ومن ثم آلت إلى الإمام الحسن بالرغم من تردده ومن ثم تنازله لمعاوية بن أبي سفيان بما اصطلح عليه بـ (صلح الحسن) وما ترتب على قضية الخلافة بعدها من خلافات وثورات لتأخذ قضية الخلافة موقع السلطة الحاكمة بمذاهب ما اصطلح عليه لاحقا بـ (أهل السنة) وما تفتق عنها من مذاهب ومدارس فيما بعد، كما أثمر التشيع لآل البيت ومناصرة الإمام علي للتأسيس لاحقا لفرق (الشيعة) المتعددة إلى أن صار التمسك بقضية الإئمة الاثني عشر ومن ثم قضية الغيبة الصغرى والكبرى للإمام المهدي المنتظر ركيزة عقيدة الشيعة الجعفرية الاثني عشرية السائدة من فرق الشيعة اليوم أيضا كمرجعيات دينية.

لم تتشكل على مسيرة اثني عشر قرنا من الزمان الذي هيمنت فيه الدولة الاسلامية على بقاع أرض الإسلام أرضية لمرجعية واحدة منفردة التقليد والتأثير بعد الخلافة الراشدة التي انتهت بعد ثلاثين عاما من وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع اختلاف هوية المذهب الحاكم هنا أو هناك، وعندما كانت مدارس الفقه والمنطق والكلام والاجتهاد والرأي ناشطة في المدينة المنورة وبغداد والكوفة، وفي زمن تبلور فيه الفكر الشيعي وفكر أهل السنة وفقه المذاهب وفي عصر الأئمة الباقر والصادق وأبوحنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ظهرت فرق وآراء تتناقض بالرؤى وترعرعت مذاهب واجتهادات متباينة تحت قاعدة( اختلاف الأمة فقهيا رحمة)، مازالت هذه المذاهب تحظى بالتقليد إلى يومنا هذا، وكان للناس مطلق الحرية في تقليد من يشاءون من الفقهاء والمجتهدين على وفق قناعاتهم في أمور الدين والدنيا فيما كانت سلطة الدولة تتبنى مذهب ورأي هذا المجتهد والمذهب أو ذاك في تبني القضاء والإفتاء والأحكام الشرعية، وظل هذا الامر قائما إلى سقوط الدولة العثمانية.

لم يشهد أهل السنة في تاريخهم سواء كانوا حاكمين أو محكومين ولا مدارس الفقه والاجتهاد والمذاهب المتفرعة عنهم مرجعية واحدة لها القول الفصل في أمور الدين والدولة على امتداد تاريخ اهل السنة، حتى الفرق والطرق الإسلامية التي سادت كالأشعرية والمعتزلة والمرجئة والسلفية والوهابية ومدارس الكلام والفقه والتصوف لم تكن لها مرجعية موحدة او قطب متفرد ضمن الفرقة والطريق الواحدة في العصر نفسه.

في المذهب الاثني عشري الشيعي أعطى الامتداد التاريخي والارتباط بقضية الإمامة وعصمة الأئمة للمرجعية الفقهية والدينية مضمونا واسعا وشموليا يتسع للفتوى والسياسة والجوانب الاقتصادية والحربية على وفق ما يوجه به الأئمة المعصومون وبعد وفاة الامام الحسن العسكري عام ٢٦٠ هجري والغيبة الصغرى للإمام المهدي كان السفراء الأربعة هم مصدر الإفتاء والتوجيه على وفق قول الإمام الغائب (أما الحوادث الواقعة فارجعوا بها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم).

وبعد وفاة آخر السفراء علي السمري عام ٣٢٩ تابع أداء المهمة المرجعية الفقهاء ويكاد يكون ابن قولويه والشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والإمام الطوسي هم أعمدة ودعائم التأسيس لمرجعيات متعاقبة حتى يومنا هذا حيث ترعرعت مدارس وحوزات الفكر الشيعي في بغداد والكوفة والحلة والنجف وقم وجبل عامل والبحرين وتفاوتت بالتأثير والأهمية على وفق علمية وفقهية المرجع من عصر إلى آخر، ومع ذلك تم تجاوز واختراق قضية التوريث والعصمة وظهرت فرق شيعية قبل ان يكون للشيعة الجعفرية الاثني عشرية النصيب الأكبر بين المقلدين التي أحدثت قضية غيبة الامام المهدي (عليه السلام) ونصية الوكلاء كمستجدة تاريخية تتبنى فرضية الإنابة عن الإمام المنتظر في زمن الغيبة الكبرى ليكون المجتهد بمثابة موقع النائب، وأصبح تعاقب المراجع للتوجيه وتشكيل الحوزات للتدريس والبحث في المذهب الشيعي مستلزمة إيمانية وفقهية للحفاظ على الاثني عشرية من ظاهرة الاختلاف والانقسام لحين ظهور الامام المهدي الموعودة الأمة بانتشالها بظهوره من حالة التردي التي تنتابها على وفق عقيدة الشيعة الجعفرية. لكن قضية تقليد المراجع ضمن المذهب بقيت قضية شخصية خاضعة لقناعة المقلد بمن يقلده كما اصبح تعدد الحوزات والنظريات وتباين وسائل البحث من حوزة إلى اخرى ومن مرجع إلى اخر ومن هوية جغرافية اوعرقية إلى اخرى مصدر اختلاف وتباين يتجاوز احيانا إطار رحمة الخلاف إلى إطار العنف والتشظي والنزاع.

على مر العصور لم يشكل وجود المرجعيات الدينية عند الشيعة الجعفرية ولا فقهاء ومراكز إفتاء أهل السنة حواجز منيعة ولا مواقف عصية حالت دون تجاوز رموز السلطة المتمثلة في الخليفة او السلطان او الوالي على الحدود الفقهية وشؤون العامة وتسخير هذه المراجع لصالح السلطة على مر الأزمنة ويكاد وجود لمعات مضيئة فقهية في التصدي للسلطة يحسب من النوادر كمواقف الامام الحسين وعبدالله بن الزبير والإمام الكاظم وابي حنيفة والمالكي وأحمد بن حنبل والعز بن عبدالسلام وابن تيمية بوجه الحاكمين.

لقد وثق التاريخ لحالات تكاد تكون شبه مستديمة تم فيها استلاب مواقف مرجعيات معروفة وفقهاء وواجهات إفتاء بل مذاهب (مراجع ومقلدين) لصالح حكام وخلفاء وسلاطين خالفوا النصوص والأحكام وترسخت وتوارثت ثقافة التقية وعدم جواز مخالفة السلطان والخليفة الجائر والظالم والخارج عن الدين بفتاوى عديدة لمجتهدين كبار وبعصور متعاقبة، بل ان هناك مجتهدين وفقهاء وأقطابا تمَّ تجيير آرائهم وفتاواهم لمصالح غزاة ومحتلين في أحرج ظروف الأمة تأزما كما حدث في سقوط ودمار بغداد بجيوش هولاكو حين أفتى الفقيه ابن طاووس عام ٦٥٦ هجرية، (وليس هو طاووس بن كيسان التابعي المعروف)، بأفضلية الحاكم الكافر العادل على الحاكم المسلم الظالم وذلك ما لم يجرؤ عليه اي فقيه من قبله لستة قرون على قوله في تاريخ الأمة بتفضيل العدل على الإيمان، ولم يكن للفقهاء والمراجع دور بناء في الصراع على السلطة بين الأمين والمأمون وتبين بوضوح دور الخطاب الديني المتناقض إبان التهيئة لثورة العشرين في العراق وما لابسها من شراء ذمم لرأي موحد لمقارعة المحتلين وأصبح من المعتاد أن تتم معظم حملات الغزو والاجتياح لأمصار الأمة بمباركة فتاوى ورسائل المراجع ورجال الإفتاء والاجتهاد باستثناء من تحصن بموقف شرعي، او وطني واضح وصريح حيث امتنع وتردد بعضهم كالمرجع الشيعي المعروف محمد كاظم اليزدي بإعطاء فتوى بشرعية القتال والجهاد ضد الإنجليز في مرحلة الإعداد لثورة العشرين قبل ان يحسم الموقف المرجع الشيرازي ومن ثم المرجع شريعة الاسلام ابوالحسن الأصفهاني، والشيخ امجد الزهاوي والشيخ احمد الداود، وأخيرا تمَّ تدمير العراق عام ٢٠٠٣ ميلادية (١٤٢٤هجرية) بقوات غازية أجنبية محتلة لإسقاط نظام وحاكم مسلم على افتراض انه دكتاتور بمباركة أحزاب اسلامية شيعية لها مرجعياتها التي تضم أعلام الفقهاء المعاصرين من دون وجل من الله وتعزير من فقه او شريعة، واحتسب هؤلاء العلماء المسيسون ان هذه القوات الغازية هي قوات حليفة. اليوم وبعد مرور تسعة أعوام على احتلال العراق يتباكى العديد من «إسلامويي» العراق (علماء وساسة) على الحال التي تحيط بأهل السنَّة من تهميش وتنكيل وانتقام بعد ان توطدت فيه قوة سلطة طائفية متفردة بالمال والسلاح بدعم من أمريكا وإيران، وبذريعة إنقاذ السنَّة تبنى هؤلاء الساسة والعلماء المتطيفون من دون تخويل من احد سياسات خرقاء ألحقت أذىً بأهلهم أكثر من أذى غيرهم، علما أن المعاناة والمكابدة والدمار ظاهرة شاملة وعامة تطول جميع العراقيين، سياسات لف ودوران وفساد تحكمت فيها المكاسب الشخصية بدلا من الثوابت الوطنية وبدوافع لا يقرها شرع ولا دين وأصبحت سمة الطائفية المقيتة ميزة الأحزاب الدينية الحاكمة، باسم الطائفة تتم مناصرة جيوش المحتلين، ويتم التصدي لفصائل المقاومة الوطنية بذريعة التصدي لعناصر القاعدة تحت مظلة الصحوات ومجالس الإسناد. ويتم الترويج لإقامة الأقاليم بين السنة والشيعة كردة فعل للصراع على السلطة ويبرر شرعيتها علماء متفيقهون بكل وسائل الخديعة مع انهم يدركون جيدا انها تؤسس للتقسيم وأنها فتنة تشظوية نتنة، وآخر ابتداع هو إثارة الدعوة والنداء لتشكيل مرجعية للسنَّة يبدو انها من طبيعة الخطاب يراد بها ترصين الوضع السياسي للطائفة اكثر من عنايتها بالبحث والتدريس والإفتاء والقضايا الشرعية لتكون واجهة معروضة لشراء المواقف والذمم. وهي بدعة يراد بها حشر مسائل الفقه الديني بقضايا السياسة وإدارة البلاد مع أن كل المؤشرات تشير إلى أن الخطاب الديني المذهبي في أحداث العراق والأمة السياسية يزيد المشهد تعقيدا وانقساما وعنفا حتى بين أبناء المذهب الواحد ناهيك عن الأحزاب الدينية الطائفية والطائفة على سطح العملية السياسية الخائبة ونتائج الغزاة والمحتلين، والأغرب والأدهى أن يتم ترويج هذه الخطابات من قبل كتل وأفراد لا يخفون عزمهم على الاستمرار بالمشاركة في عملية سياسية من نسج الاحتلال في ظل دستور أخرق بان زيفه وهوانه في أن يوحد ثلة من الساسة لا أمة أو دولة كالعراق الزاخر بتاريخه وحضاراته.

كما يبدو أن المنادين بتشكيل مرجعية لأهل السنة ينطلقون من افتراض أن المرجعية الشيعية لعبت دورا فاعلا في إصلاح أوضاع الشيعة في العراق بعد الاحتلال فيما يعرف الجميع ان هذا لم يحصل وان ساسة الاحتلال منهم قد أسهموا منذ وصولهم إلى سدة الحكم في تشويه صورة المرجعية التي اصبحت اليوم عرضة لانتقاد الكثير من الشيعة لعدم وضوح مواقفها في كثير من القضايا التي ينبغي ان يكون لها موقف صريح وواضح فيها، كموضوع احتلال العراق وموضوع التصفيات الطائفية التي جرت، وكذلك الفساد المالي والاداري، وانتهاكات حقوق الانسان الجارية اليوم في العراق.

لقد ألهمتنا قضية احتلال العراق كيف ان الإسلام كدين وشرع يؤسس لقاعدة العدل والحرية يتم تلويثه من قبل الساسة لمصالحهم ويتبنون بذريعته الطائفية وسياسات التقسيم والتكفير والتبرير.

لقد بان فساد الخطاب الديني والطائفي المسيس في العراق وبانت مثالبه وفساد قياداته عبر الفساد المستحكم والتفرد المتسلط والتشبث بالمنافع الشخصية وشراء الذمم وإثارة العنف والانتقام.

من يفكر بإنقاذ العراق من محنته بعد طول استفحال واعتلال وقسوة نخر وتهجير وانقسام لا يرى في الأفق من سبيل للنجاة إلا بوحدة الجهد الوطني المناهض لكل ظواهر التردي السائدة من دون تمييز بسبب دين أو طائفة أو مذهب أو قومية بعزيمة عراقية يكون فيها العراق الواحد وهويته الوطنية هو الشعار للتحرير والانبالمعايير الوطنية لقد نخر الاحتلال ونتاجاته والعملية السياسية الخائبة ورجالاتها وقياداتها العراق دولة وكيانا واقتصادا وأساءوا إلى شعبه وتاريخه وهويته ووحدته، ولن ينالوا جزاء هذا الفعل الشنيع إلا الذل والهوان قصر الزمن بهم أو طال على وفق إرادة الله وسنن الحياة وإصرار الشعوب.

* كاتب وسياسي عراقي



.

نسخة للطباعة

مقالات أخرى...

    الأعداد السابقة