أفق
الطريقُ الجنوني للديمقراطية
تاريخ النشر : الأربعاء ١١ يوليو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
الصعود الديمقراطي للدينيين إلى السلطات والسيطرة على مقاليد الدول بطرائق عنيفة يعبر عن نصف قرن أو أكثر من التدهور الاجتماعي السياسي.
لم يظهر هذا الصعود بلا سببيات عميقة. تواريخ طويلة لبلدان العالم الثالث أسستْ هذه الظاهرات.
حين خطف الشموليون الروس طريق التطور الديمقراطي الممكن العقلاني، وحين هيمن ماو تسي تونغ بحربِ عصاباتٍ ضارية على المدن، وحين ألغى الضباط في مصر والعراق وسوريا الأحزاب والبرلمانات وحين ألغى الإنجليز هيئة الاتحاد الوطني في البحرين ولم يعط الفرنسيون الجزائر الحريةَ بعد تضحياتهم لفرنسا في الحرب العالمية الثانية.
حين كان النموذج الغربي (الرائد) يوسع الاستغلال والإرهاب في العالم الثالث، فكان النموذج الديمقراطي داخله غير مقبول ، وطرق العقلانية التي تطورت فيه مدعاة للشكوك، لكن ما ينتشر هو الدعوات المتوجهة للدكتاتورية والعنف واعتماد القوة في التطور السياسي.
حين حدثت مثل هذه الوقائع وغيرها الكثير وما تلاها من أحداث وظروف في أغلب بلدان العالم الثالث تكونت بيئات معادية للديمقراطية.
التحولات الاقتصادية وثمارها تجري من دون قيادة ومراقبة الشعوب، الكثير من الدول تقيم صناعات للمواد الخام الملوثة للبيئات والفوائض لا تحددها خطط وطنية، وتكون قوى اجتماعية صغيرة تبدد الفوائض أو تكون بنى بذخية، الأرياف تتدهور زراعاتها وقواها المنتجة، وتنتشر الهجرات في بلدان زراعية ما عرفت سوى الاستقرار على مدى قرون، ولهذا كله يؤدي إلى أن القوى التعليمية والثقافية العقلانية تتضاءل أو تُحبس.
كانت نتائج هذه العقود شعارات الدكتاتوريات: دكتاتورية البروليتاريا، وولاية الفقيه، وإحياء نظام الخلافة ومعاداة الشيوعية والفاشية وأفكار القاعدة وهي الأفكار التي أنتجت القوى السياسية الحادة والعنف. وسادت خلال أغلب فترات القرن العشرين، وحتى الآن في السنوات الأولى للقرن الواحد والعشرين لم تهزم هذه الأفكار تماماً.
ومع ذلك فإن العديد من المفكرين والمناضلين والمثقفين لم ييأسوا من نشر العقلانية وتحليل المجتمعات الشرقية وكتب الأدباء الكثير من الأعمال المحللة لبلدانهم عبر الصور الأدبية، لكن مسألة معرفة مشكلات الشرق العميقة وسبل تغييرها لم تزل بعد في البداية بعد كل هذه الثورة المعرفية التي اجتاحت البشرية، ونرى الجماهير العربية تبحث عن العادات الأولى في التصويت وبداية احترام صناديق الاقتراع.
وحين تجيء هذه الدول بعد قرن أو نصف قرن لتبدأ الديمقراطية من جديد، لا يكون ثمة سوى قوى شمولية منتشرة غالبة على الساحات في ظاهرات مشتركة لها سببيات عميقة.
ثمة عقول جماهيرية عُطلت قروناً طويلة عن العمل، فكيف تظهر فجأة كامرأة جاوزت سن اليأس وأُريد لها أن تَحملَ وتلد؟
الجنون هنا ظاهرة(طبيعية) فديمقراطية القوى الدينية في الجزائر تغدو مذبحةً للجمهور ولها، ما تكوّن في الأرض خلال عقود هم أناس محبطون، مسجونون في نصوص حَرفية مغلقة، كلها أشباح وعقاب ونار، كلها قوة وقمع وحصار داخلي للذوات عن الحرية والكشف، كلها مطاردات للشياطين الغربيين والتحديثيين والعلمانيين.
حين نرى الثورة السورية نجد كيف وصلت الحداثة المزعومة لدى الطبقة الفاسدة الحاكمة إلى الإرهاب الدموي الجماهيري، لقد كانت تسرق وتُصعد الطائفية التي هي شكل جنوني، وتَحبس وتضرب الجماهير، لكن الجمهور السوري في ثورته لم يتوجه لطريق الجنون، الجنون جاء من ممارسات السلطة، لكن لا يمكن القول إن العقلانية انتصرت، فالجنون يطل برأسه وربما تدفعه المذابح للانفجار.
الطريق الجنوني نجده ينشأ في دول أخرى حيث يغدو التوجه للديمقراطية مصحوباً باعتقال شعب وضرب الطبقات المثقفة والليبرالية وهو ما يُحدث هجرة شعبية كبيرة للخارج وكلها من أصحاب العقول، فماذا يبقى في البلد؟
أو حين تتحول الطريق للديمقراطية إلى حرب أهلية، أو صراعات ضارية يومية مستمرة تنشر العنف في كل مكان.
أو حين يجري نزع الإسلام من المسلمين وتكفير الاتجاهات السياسية العربية غير المحافظة، فيتخذ الدين شكلاً إقصائياً حربياً، وليس برنامج إصلاح محدد.
أو حين لا تتفق القوى السياسية على إجراء تحولات حقيقية في حياة الناس المعيشية فيما تظل الصناديق الانتخابية ملتهبة أو ديكوراً، وهي الأمور التي تحضر للمغامرين مرة أخرى للعودة إلى المسرح بقوة واعتبار الديمقراطية لعبة.