الجريدة اليومية الأولى في البحرين


أفق


ديمقراطيةٌ من دون برجوازية

تاريخ النشر : الخميس ١٢ يوليو ٢٠١٢

عبدالله خليفة



يستمر العربُ في التجريبِ السياسي مهدرين السنوات والجهود.
وتعطينا الانتخابات التي جرت في عدد من الدول العربية هذه الذبذبات المتعددة بين العودة للوراء والقفز للأمام، بين المحافظة والديمقراطية، بين التقدم والرجعية.
التذبذب الكبير بين الإقطاعين السياسي والديني يجد تجسيده في ثنائية أمير المؤمنين الحاكم السياسي ومستشاره الديني، وقد كرس المسلمون هذه الثنائية فجعلوا الحاكم هو القائد السياسي، لكنهم من جهة أخرى جعلوه كذلك متدخلاً في الشرع، ولكن نظراً لأنه غير متخصص في الفقه، أو نظراً لانشغالاته الاجتماعية والسياسية والخاصة، فقد صعدَ رجلُ الدين ليكون حاكماً في الأحوال الخاصة بدرجة أساسية رغم أنه كذلك له رؤيته السياسية في قضايا الخلافة وأحوال الناس وتاريخ الإسلام.
هذه الثنائية التي وافقت زمن الحضارة التحديثية الإسلامية التي لم تتجذرْ بسبب فقدان طبقة وسطى وصناعتها وعلومها الحديثة، انشرختْ في زمنيةِ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي هزتْ أسلوبَ الإنتاج الإقطاعي، فتصورت الثقافةُ الدينيةُ الكلاسيكية أن الحلَّ يكمنُ في تبادل الأدوار بين الخليفة والمُلا، بين أمير المؤمنين وقادة الفرق المذهبية، فلأنَ طابعَ الثقافةِ ديني ويتصورُ بأن المشكلةَ تكمنُ في عدم وجود الأخلاق الحسنة لدى الخلفاء وولاة الأمور، فإنهم حين يتمسكون بالشرع تكون المسألةُ قد حُلت.
وهنا قد وقع الخطأُ المزدوج التاريخي بعدم فهم الإسلام وعدم فهم السياسة.
ولهذا فإن الفِرقَ وجماعات الطرقِ والتصوفِ والمغامرين راحتْ تقفزُ على السلطات من دون أن تقوم بأي دور تحويلي حقيقي، لأنها لم تفعل سوى أن كررت أفعالَ الخلفاء السابقين وزادتْ الطينُ بلةً.
هذه الثقافة الدينية المحافظة الخيالية استمرت بعد أن ظهرت الثقافةُ الاشتراكية الخيالية العربية التي اعتمدتْ جوهرَ هذه الأسس، فهي كذلك ذاتُ ثقافةٍ دينية محافظة متوارية، ومن هنا رفضتْ الرأسماليةَ والطبقةَ الوسطى والحداثةَ العصرية الغربية، وجعلتْ الطبقةَ العاملة تختصرُ الوجودَ الاجتماعي بشكل متخيّل.
وأسستْ شرعاً هو غير الشرع، واشتراكية تفضي لرأسمالية فاسدة، فكان لابد أن يزدهرَ الشرعُ المحافظ التقليدي مرة أخرى، ويفقد العمالُ الثقةَ في الاشتراكية.
هذا التجريبُ السياسي من اليمين واليسار المتخلفَين أدى للثورات العربية المترددة بين التقليد والحداثة، بين الإقطاع والرأسمالية الحديثة، بين التراث النصوصي وواقع الإنسانية المعاصرة.
فلا توجد طبقاتٌ وسطى قويةٌ ولا طبقات عمالية منظمة تحديثية، والحراك السياسي بين الفئات الوسطى الصغيرة، والحطام الاجتماعي البشري المقذوف من الأرياف والبوادي والأزمات الاقتصادية والحروب وصراع الطوائف.
لهذا فإن نتائجَ الانتخابات تعكس هذا التقلقل والتذبذب، فرأسماليةُ دولةٍ قوية في الجزائر يسندها نفطٌ وحزب منظم وبيروقراطية متجذرة تعطي استمراراً لنظام رأسمالية الدولة الشمولية. وتغدو شرائحُ الدينيين غير قادرة على تحريك الفئات الوسطى الصغيرة التي سئمتْ الفساد وتخاف من مغامرات الدينيين.
فيما تونس ذات التراكم الليبرالي جمعتْ فئات وسطى صغيرة متعددة الرؤى الليبرالية والدينية وتعكس عدم قدرة البناء الاقتصادي على إنتاجِ برجوازية صناعية خاصة موّحدة خلال العقود السابقة، وما الأجنحةُ الأيديولوجية سوى تعبير عن هذه الشرائح الصغيرة غير المنصهرة اقتصادياً.
مصر نسخةٌ أخرى من تونس أكثر تعقيداً ولم تستطع أن تحسمَ الصراع بين الإقطاع السياسي الذي صار هو قيادة الجيش، والإقطاع الديني الذي تجسَّد في الإخوان، فيما الفئاتُ الصغرة والوسطى ضائعة بين القطبين وتتحرك هنا وهناك في اضطراب وبلبلة، وكلٌ من الطرفين يحسن ويتشبث كذلك بامتيازاته وموروثه.
ذهب زمنُ الخلفاء وصار رجالُ الدين وقادة الجيوش كذلك يتدخلون في إدارات الحكم، ويجري دفع الأمور نحو حكم البرلمانات، والعودة لسيطرة الإدارات كذلك، ويتحرك الناسُ لتصعيدِ هذا أو ذاك، وتندفع قوى القطاعات العامة الخربة للدفاع عن مصالحها، ويضيعُ رجالُ الأعمال بين الطوفان ويقبض الرجالُ على الصولجان وتحاول النساءُ الخروجَ من الخيام.
فيما ليبيا المثقلة بحكمٍ دكتاتوري فظيع لا تريد أن تكرره وتجري نحو ليبرالية غير واضحة المعالم.
إنها حالاتُ سيولةٍ تاريخية في أبنيةٍ مترددةٍ بين الحِرف والصناعة، بين الصناعاتِ الصغيرة والصناعات الكبيرة، بين الإنتاج الوطني والتبعية، بين الارستقراطيات والبرجوازية، بين الثقافة الدينية النصوصية والثقافات العقلانية الضعيفة