قضايا و آراء
المقارنة ما بين الدولة العلمانية والدولة الدينية
تاريخ النشر : الجمعة ١٣ يوليو ٢٠١٢
لقد تطرقنا في مقالتنا السابقة إزاء الاستبداد السياسي للنظام العربي الرسمي، وما يتخمض عن هذا «الاستبداد» بغياب الديمقراطية الحقيقية المنشودة أو بوجود ديمقراطية مهمشة المفاهيم ومنقوصة الأبعاد.. مثلما أشرنا إلى الاستبداد الديني لقوى وتيارات الاسلام السياسي، وما يترتب على خطابها الديني الساعي إلى اقامة الدولة الاسلامية سواء بـ «سلطة النصوص والحاكمية أو بحكم الملالي وولاية الفقيه»... ولعل في مقالتنا هذه سنتناول الديمقراطية الحقيقية التي تتمتع بها الأنظمة الديمقراطية ومجتمعاتها المتطورة، وما يتمخض عن أبعاد هذه الديمقراطية، بإعطائنا وجها للمقارنة ما بين الأنظمة الديمقراطية المتقدمة والأنظمة الاستبدادية المتخلفة.. إذ حين إلقاء نظرة «خاطفة فاحصة» على تشكيلة الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية.. فإن المجتمعات على وجه البسيطة والشعوب العربية قاطبة، قد تستخلص النتائج المفصلية.. بأن الأولى أي «الأنظمة الديمقراطية».. قد أنشئت من قلب وكينونة «البنى التحية» المقترنة بالإرادة الشعبية الحرة، والمعززة بالكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية، المتجسدتين بمواد الدستور وبقوانين العقد الاجتماعي التعاقدي.. بينما الأخرى أي «الأنظمة الأوتوقراطية».. قد انبثقت وأنشئت من ماهية وأعماق «البنى الفوقية» والمهيمنة على المجتمع بأنساق السياسة الفوقية «الفئوية والإقطاعية والطبقية» عبر النظام السياسي الفردي أو الشمولي الاستبدادي... ولطالما تبرز بهذا الصدد التناقضات الصارخة ما بين ارتقاء الدول المتقدمة بالتجلي والعلو، وتراجع الدول المختلفة بالتهاون والانحدار.. فإن ثمة فجوة سحيقة تفصل ما بين النظامين.. لعوامل جوهرية تعود أسبابها المحورية، إلى أن الدولة النامية لدى العالم الثالث، هي حديثة العهد والتأسيس، بحيث لم يتجاوز عمرها السيادي ما بعد الاستقلال الوطني بضعة عقود من الزمان.. أضف إلى ذلك أن هذه الدولة النامية عادة ما تحمل وتتبنى خطابا قطريا ضيق الآفاق والأبعاد انبثقت أجندته من عقول قيادات سياسية رسمية.. هي «طفيلية براجماتية وميكافيلية الغايات» جاءت من خلق الاستعمار الأجنبي أصلا قبيل انسحابة.. بينما الدولة الديمقراطية في أوروبا يمتد عمرها السيادي إلى نحو خمسمائة عام.. هي فترة فصلية حضارية سبقتها «حقب تاريخية» متوغلة في القدم أي منذ القرن السابع ما قبل الميلاد ولغاية «العصر الحديث» القرن الخامس عشر الميلادي.. إذ تجلت تلك «الحقب التاريخية» بالنضالات السياسية والإيديولوجية والصراعات الفكرية والملاحم الفلسفية والعلمية والإبداعات الإنسانية والاجتماعية والأدبية، زخرت جميعها بتضحيات ونضالات العظماء ورواد الفكر والعلوم والفلك والفلسفة، عبر أقلامهم وكلمتهم ومن خلال نظرياتهم وفلسفتهم، الذين اقترنت أسماؤهم ونتاجاتهم ابتداء بالعصر اليوناني وبأوائل فلاسفة اليونان «طاليس وهرقيليطس وانكساغوراس وديموقريطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو.. مرورا بالقرن السادس الميلادي «العصر الوسيط» والذي زخرت بداياته بتألق «التفكير العلمي» للفلاسفة والمصلحين «أوغسطين وجون سكوت أريجينا وتوما الأكويني ووليم أوف أوكام» عكست أفكارهم جميعا إزاء استنهاض العقل والنهوض بالحركة العلمانية، والسعي إلى فصل السلطات المدنية عن السلطات الدينية.. ولعل القرن الخامس عشر الميلادي «العصر الحديث» أو «عصر النهضة».. يمثل تواصلا لانتصارات «نهج» العلماء والفلكيين والمكتشفين الماديين والعلمانيين والفيزيائيين، وفي مقدمتهم العالمان نقولا كوبرنك وجاليليو جليلي.. وتأتي ابداعات الفلاسفة الأوروبيين «رينيه ديكارت وبيكون وسبينوزا وليبنتز وجون لوك ولامتري ودالامبير وفولتير وروسو وكانط وهيجل وكارل ماركس وأنجلز.. لتعبر ابداعات ونتاجات هؤلاء العظماء عن العلمية التراكمية الكمية بطفرتها الجدلية الكيفية والنوعية لمفاهيم حضارة الدولة الديمقراطية المدنية في أوروبا، والممتد عمرها إلى خمسمائة عام.. لعل على الصعيد ذاته، هو حينما أشرنا إزاء العمر الحديث والقصير للتنشئة السياسية والفلسفية والأيديولوجية للدولة القطرية في العالم العربي.. فإن تلك العشرات من الأعوام العديدة، لانبثاق وقيام هذه الدولة النامية والمتخلفة.. لم تمكنها بطبيعة الحال الخروج من شرنقة (الاستبدادين السياسي والديني) اللذين يمثلان وجهين لتركيبة الدولة القطرية الواحدة.. حسبما تظل هذه الدولة القطرية عاجزة عن التحرر من وطأة المفاهيم الضيقة الآفاق والأبعاد، والمتسمة بالموروثات المغلوطة، والأعراق المعكوسة، والقيم التربوية الخاطئة، والتقاليد الاستبدادية، التي جميعها أدت إلى تمزيق الشخصية العربية تجلت بتركيبة سيكولوجية مهترئة وغير سوية.. ولكن التشكيلة البطريركية الهرمية للمجتمع الأبوي من أعلى «السلطة السياسية إلى أدناها الأسرية» هي قائمة على طبائع الاستبداد ومظاهر العنف والتعجرف، وأساليب التقريع والتوبيخ والاحباطات والعسف والاضطهاد.. فإن هذه (الطبائع والظواهر) قد تنسحب على مختلف «البيئات الأسرية» والتربوية والتعليمية والإنتاجية والإعلامية والسياسية والخاضعة -هذه البيئات- جميعها إلى ثقافة الاذعان وثقافة الهيمنة وثقافة الاستحواذ وثقافة الاستسلام وثقافة الطاعة وثقافة الخنوع وثقافة التهديد والترهيب وثقافة الترغيب والتنفيس وثقافة التغييب والتهميش.. لتمثل هذه «الثقافة الرخيصة الدغمائية الديماغوجية» بالتالي ظاهرة مرضية ابتليت بها المجتمعات العربية ابتداء من المرتبة العليا نزولا إلى المرتبة الدنيا، ومن ثم ورثت أسقامها.. أمراضا نفسية أدت إلى اصابة فئات من المجتمع بالأمراض العدوانية والعدائية التي غرست في أغوار هذه «الفئات» بذرة السادية والسيكوباتية.. يقابلها البعض الآخر بإصابتهم بداء التقوقع والاكتئاب والمعاناة النفسية والانطواء على النفس، والاحساس بشعور من الغربة في الوطن، والمكابدة بالاغتراب على تراب الوطن.. هذه هي الدولة القطرية في العالم الثالث بتشكيلتها السياسية والأيديولوجية المهترئة وبتركيبتها النفسية والسيكولوجية الممزقة.. فما هي تشكيلة الدولة الديمقراطية في المجتمعات المتطورة؟
إن الاجابة تكمن في تشكيلة هذه الدولة الديمقراطية العلمانية والمدنية، والتي طال عمرها السيادي المديد، قد تحررت من شوائب وطوباوية الميتافيزيقا وهيمنة الأحكام الدينية المطلقة.. حينما أبعدت هذه الدولة العلمانية عن السياسة، وفصلت الكنيسة عن الدولة.. تجلت بدايات تلك الخطوات العلمية العلمانية حينذاك، في آراء العالم كوبرنك وفي ثورة العالم جاليليو الفلكية الذي أكد آراءه بشجاعة أمام رهبان الكنيسة وديوان محاكم التفتيش «ثبوت الشمس وحركة الأرض» بدورانها الدائم والمستمر.. مما أدانته محاكم ديوان التفتيش بالكفر والهرطقة ومن ثم بالسجن... ولكن على الرغم من ذلك كله فإن جاليليو «ضرب الأرض برجله وقال ومع ذلك فهي تدور»... وهكذا جاءت نظريات الفلاسفة والعلماء و«الباحثين الماديين والعلمانيين» بأفكارهم الجدلية وآرائهم الديالكتيكية دعامة محورية ومفصلية لآراء ومحاورات «جاليليو جليلي» العلمية... وفي مقدمتهم العالم (برونو) والذي تماثلت آراؤه مع آراء (جاليليو)... فحكم عليه ديوان التفتيش بإيطاليا بالسجن ستة أعوام وبالتالي تم قتله وإحراق جثته عام 1600م.. بعد أن رفض التنازل عن آرائه وموقفه.. وكذلك العالم دالامبير والفلاسفة ديدرو وفولتير ولامتري وجان جاك روسو الذي مهد للثورة الفرنسية خلال مؤلفاته وبالأخص «العقد الاجتماعي».. وكارل ماركس بعبارته التاريخية الشهيرة التي أطلقها «لن يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم وانما المطلوب تغييره» جسدت مغازيها ودلالاتها في مؤلفاته الجدلية والمادية التاريخ ورأس المال والاقتصاد السياسي وغيرها من المؤلفات.. هم جميعا جاءت أفكارهم وآراؤهم ونظرياتهم لتلعب دورا تاريخيا وحضاريا بإبعاد الدين عن السياسة، وفصل الكنيسة عن الدولة.. ولطالما هذه الدولة الديمقراطية والمدنية بعمرها السيادي الذي امتد إلى خمسة قرون خلت، والقائمة على مبدأ السلطة وفصل السلطات.. فإن مؤسسات وبيئات مجتمعات قد تألقت بالمفاهيم التربوية الحديثة والحداثية وبالأساليب المدنية المتحررة والقائمة على ثقافة حرية الفكر وحرية الرأي وحرية المعتقد وروح التسامح والاعتراف بالرأي الآخر... والمجردة -هذه «الثقافة الحرة والمتحررة»- من أمراض العسف وداء الهيمنة ومظاهر الاستبداد... لعل في ظل هذا المناخ السياسي المستقر الأبعاد والراقي المفاهيم للدولة المدنية بسمو القيم الديمقراطية وبعلو المثل الاجتماعية.. فإن المجتمع المدني في أوساط كمؤسسات هذه الدولة العلمانية، قد يؤكد تحريره من الأمراض النفسية التي يعانيها مواطنو الشعب العربي.. مثلما يرسخ هذا الشعب المتحضر انعتاقه من داء عقدة «الأنا» المتسمة بالدكتاتورية والأوتوقراطية، والتي التصقت بكثير من القيادات والزعامات العربية، المستبدة بالقرارات السياسية، والمستأثرة بمقدرات ومصير شعوبها... ولطالما أعطينا وجها للمقارنة من خلال مقالتنا هذه، ما بين «الدولة العلمانية المتقدمة، الدولة المدنية والديمقراطية والدولة القطرية المتخلفة، الدولة الهلامية والاستبدادية».. فإننا نتساءل بهذا الصدد أين الثرى وهي «الدولة الدينية».. من الثريا وهي «الدولة العلمانية»؟.. إن هذا الموضوع المهم جدير بإكماله بموضوع آخر سنتناوله في مقالة قادمة.