الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان

«الربيع العربي» واقتصاد الألفية الثالثة

تاريخ النشر : السبت ١٤ يوليو ٢٠١٢



لقد تصور البعض بعد ما سمي ثورات الربيع العربي، بأن الثورات، وتغير الحكومات، سيحلان جميع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تعانيها مجتمعانا العربية. ولم يتصور البعض أن معالجة تحديات التنمية المعقدة، وفي عالمنا المتشابك، تحتاج إلى تغير مجتمعي وأخلاقي، مع تطوير عقلية الإنسان العربي بأكمله، وقد لا تكون الديمقراطية التي نحلم بها فقط انتخابات وبرلمانات وتشكيل حكومات منتخبة، بل تحتاج أيضا إلى تطوير عقلية الإنسان العربي لينتخب قيادات واعية وناجحة وحكيمة، كما نحتاج إلى تطوير أخلاقيات السلوك في مجتمعاتنا العربية، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة وفي عالم العولمة المعقد. وقد تكون من أحد تحديات التنمية الاقتصادية في مجتمعاتنا العربية معضلة تخلف النظام الاقتصادي العربي، وضعف المنافسة في سوقه الحرة، واعتماده على النظريات الاقتصادية البالية، والياته المتخلفة. والسؤال لعزيزي القارئ: كيف ستتعامل مجتمعاتنا العربية مع تحديات البطالة وضعف الانتاجية لتوفير ثمانين مليون فرصة عمل خلال العقود القليلة القادمة؟ وكيف يمكن تطوير الاقتصاد العربي بتوفير سوق عربية إقليمية متناغمة وتعمل ضمن قوانين وآليات اقتصادات الألفية الثالثة؟ وما دور التعليم في مجتمعاتنا العربية في تحقيق ذلك؟
يعرف علم الاقتصاد بعلم اجتماعي متخصص بالإنتاج والتوزيع واستهلاك البضائع والخدمات، ويتعامل مع نظرية إدارة الاقتصاد والنظام الاقتصادي. وقد بدأ تاريخ هذا العلم قبل نحو عشرة آلاف عام، باكتشاف الإنسان للزراعة فتغذى بمنتجاتها، وادخر ما استطاع منها كرأسمال للمتاجرة، كما تبلورت في القرن السابع عشر ثورة صناعية، أخذت في النمو والتقدم لتتحول لثورة تكنولوجية في القرن الحادي والعشرين.
ومع بدء الألفية الثالثة برزت ثورة معلوماتية ترافقت بذوبان الهرم الاجتماعي للاقتصاد التقليدي. فتطورت طرائق الإنتاج، واعتمدت على التعاون المجتمعي، وبدأت تختفي هرمية السيطرة المركزية. واستخدمت الشعوب الصفحات الالكترونية لتبادل الإخبار والتحاور وتدارس الاختراعات والإبداعات وشراء البضائع. وتطورت بيئة العمل، فتبادل العمال والمختصون مناقشة المشاريع والاختراعات في الفروع المختلفة لمؤسساتهم عبر الانترنت، وتحول الزبون من مشتر سلبي إلى عضو مشارك في تقييم وتطوير، بل اكتشاف المنتجات الجديدة. كما تطور مفهوم الشركات الذكية المكونة من مجموعة مؤسسات تعمل بالمشاركة مع الزبون لتطوير منتجات جديدة من خلال البحث والتقييم والتصميم والإنتاج المشترك. وانتقلت الشركات من مرحلة المنافسة الشديدة والسرية الفائقة، والصرف الكبير على مكاتب المحاماة لحماية براءة الاختراع، إلى مرحلة الشراكة التعاونية والإبداع والعمل المشترك للإنتاج وتقديم الخدمات.
وتطورت صفحات الانترنت المعلوماتية المجانية، ومن أهمها اللوكيبيديا الالكترونية، التي يشارك الآلاف من شعوب العالم في نشرها وتحريرها وتنقيحها، واخترع بعض المبدعين برامج الكترونية مجانية كبرنامج التشغيل الآلي لينوكس، الذي تم تطويره على صفحات الانترنت من خلال آلاف المتخصصين. ووفرت الصفحة الالكترونية لشركة اي بي الفرصة للمتاجرة المباشرة بين البائع والمشتري وبدون وسطاء، كما طورت اليوتيوب قناة إنترنت تلفزيونية مجانية يشارك في تأليفها وتنقيحها واختيار بنودها المشاهدون. ومن المؤمل أن يستمر انتشار الاقتصاد الالكتروني ويترافق بانخفاض أسعار خدمات الانترنت والكومبيوتر، بتوافر برامج التشغيل المجانية، كما سينتهي دور وسطاء السوق وتختفي سيطرتهم وأرباحهم الكبيرة.
وقد ناقش البروفيسور الكندي دون تابكوست وزميله أنتوني ويليامز، في كتابهما وكيكونومكس، كيف ستغير تكنولوجيا الانترنت اقتصاد الألفية الثالثة. والوكيكونومكس هو تعبير مشتق من كلمتين، وكي، وتعني السريع، وتعبر عن الصفحات الالكترونية التي يستطيع القارئ أن يشارك في تأليفها وتنقيحها، وكونومكس وهي مشتقة من الكلمة الإنجليزية اكونومكس وتعني الاقتصاد. وتعبر هذه الكلمة عن اقتصاد العولمة الجديد الذي تستخدم فيه المعاضدة التعاونية الجماهيرية بين الشركات العالمية والجماهير الغفيرة من الأفراد الموجودين في مختلف أرجاء الكرة الأرضية، ومن خلال الصفحات الالكترونية، لتطوير البحوث والإنتاج بهذه الشركات.
وتعتمد فلسفة اقتصاد الوكيكونومكس على أربع أساسيات، وهي الانفتاح والتناظر والمشاركة والعمل بتوجه عالمي، وبذلك تتحول عمليات التطوير والبحوث والإنتاجية للشركات من مرحلتها التقليدية في السرية والمنافسة العدائية وبنظرة المصالح الضيقة والقصيرة الأمد، إلى مرحلة الانفتاح وشفافية العمل المشترك مع الجماهير الغفيرة في أنحاء العالم المختلفة ومن خلال الانترنت. ويعتبر مؤلفا الكتاب المشاركة الجماهيرية في البيئة التجارية كنوع من تحويل جزء من عملية الإنتاج الصناعية للخارج وذلك بتحويل طلب حل معضلة تكنولوجية صناعية للمشاركة الجماهيرية على صفحات الانترنت. وتترافق هذه الخدمات بتعويضات مالية، عادة لا يطالب بها المشاركون، وتقدمها الشركات لمساعدة البعض وبالأخص المتقاعدون المتخصصون الذين لا يرغبون في الارتباط الوظيفي ولكن يريدون الخدمة المجتمعية من خلال المشاركة بخبراتهم.
وقد بدأت فكرة هذا الاقتصاد الجديد مع خبرة شركة جولدكورب الكندية المتخصصة في التنقيب عن الذهب، التي كانت تعاني في سنة 1993 صعوبات مالية، لفشل محاولاتها المتكررة لاكتشاف مناجم جديدة للذهب، فتسلم رئاسة الشركة شاب طموح يدعى مكوين، وحدد عشرة ملايين دولار للبحث عن مناجم جديدة للذهب، ولكن باءت جميع المحاولات بالفشل، وقربت الشركة من إعلان إفلاسها. ومن محاسن المصادفات أن يتعرف مكوين إلى لينوس تورفولد خلال مؤتمر بجامعة هارفارد، وهو يقدم محاضرة يعرض فيها برنامجه للتشغيل الالكتروني، لينوكس. وقد ناقش خبرته في عرض البرنامج على صفحات الانترنت، ليراجعه المختصون ويطوروه مع فريقه. وقد كانت هذه الفكرة الهاما لمكوين، فرجع لشركته، وقام بعرض جميع المعلومات السرية الجيولوجية عن مناجم الذهب التي كانت تملكها شركته على صفحات الانترنت، وطلب من القراء مساعدته على تحديد المواقع التي يجب حفرها، وعرض نصف مليون دولار لمن يدله على مناجم الذهب. فرد القراء بمعلومات هائلة ساعدت شركته على اكتشاف مائة وعشرة مناجم غنية بكميات هائلة من الذهب، وارتفعت قيمة الشركة من مائة مليون دولار إلى تسعة مليارات من الدولارات. وقد بدأت شركات الأدوية الاستفادة من هذه التجربة لتطوير أدوية جديدة بالتعاون مع قراء الانترنت المتخصصين. فمن المعروف أن شركات الأدوية تحتاج لحوالي مليار دولار كُلفة للأبحاث لاكتشاف دواء جديد. وقد أدى تعاون الانترنت المعلوماتي لاكتشاف أدوية جديدة وبكُلفة ومدة أقل، مع التخلص من مشاكل براءة الاختراع والتكاليف الباهظة لشركات المحاماة للدفاع عنها.
وقد حاولت شركة البوينغ لصناعة الطائرات التأقلم مع الثورة المعلوماتية الجديدة، فقد أنشأت نظاما جديدا للتعاون والملازمة في إنتاج طائرتها الجديدة مع التعاون مع عدة شركات وفروعها المتعددة. فناقشت فكرة الطائرة الجديدة مع شركائها، ثم عرضت التصميمات المقترحة على صفحات الإنترنت واستفادت من ردود المختصين. ثم جزأت مسؤولية إنتاج الطائرة على مجموعة كبيرة من الشركات العالمية. فقسمت صناعة هيكل الطائرة لأجزاء ووزعت مسؤولية صناعتها على شركات عدة فرنسية وألمانية وأمريكية ويابانية واسيوية. كما وزعت مسؤولية إنتاج المحركات النفاثة على شركات مختلفة كشركة رولز رويز البريطانية وشركة ميتسوبيشي اليابانية.
وقد علق اوري برافمن ورود بيكستورم في كتابهما السمكة النجمة والعنكبوت، بأن شركات المستقبل ستكون شبيهة بالسمكة النجمة التي لا تملك رأسا ولا عقلا، بل هي مجموعة من الخلايا تعمل مع بعضها بعضا بتناسق جميل. وقد استفادت الصين من هذه الثورة الجديدة، فحولت صناعة الدراجات إلى مجموعة من الشركات المتلازمة والموزعة على مختلف أرجاء الصين التي تعمل معا لإنتاج ملايين الدراجات سنويا ومن خلال التعاون وعمل التصاميم على شبكات الانترنت المختلفة. وقد تعلمت كثير من الشركات الغربية من هذه التجربة الصينية، فمثلا شركة بركتور اند غامبل حينما احتاجت لمنتج لإزالة بقع النبيذ من الملابس، نزلت طلباتها على صفحات انوسنتف الالكترونية، وقام المختصون من جميع انحاء العالم بالمشاركة لاكتشاف المنتج اللازم، واشترته الشركة وبرخص التراب. فوفرت بذلك الشركة كُلفة إنشاء مراكز أبحاث وتوظيف مئات الباحثين وصرف المبالغ الطائلة لشراء الأجهزة وصيانتها.
من الجدير بالذكر أن الانترنت سيؤثر أيضا في طبيعة العمل مستقبلا، فستقل مؤسسات التوظيف والحاجة لتوفير وتجهيز المكاتب، كما ستقل الحاجة للمواصلات للوصول إلى مواقع العمل، فستتحول الوظائف إلى وحدة عمل تشترى من خلال صفحات الإنترنت، ويقوم بها العاملات عبر الانترنت وهن في بيوتهن وبين أطفالهن. كما لو احتاج مصنع لإنتاج جهاز جديد لتقديم خدمة معينة، سيعرض المصنع طلباته على شبكات الانترنت وستصله ردود من كبار المتخصصين تعرض تصميمات لصناعة هذا الجهاز وبكُلفة بسيطة جدا.
والسؤال لعزيزي القارئ هل حان الوقت ليستوعب عالمنا العربي تطورات اقتصاد الألفية الثالثة؟ وهل سنوجه التعليم لتجهيز القوى العاملة المستقبلية اللازمة للتعامل مع تحديات هذا الاقتصاد الجديد؟ وهل ستصدر برلماناتنا العربية تشريعات اقتصادية مستقبلية تسهل المشاركة في هذا الاقتصاد بسلاسة فائقة؟
* سفير مملكة البحرين في اليابان