الجريدة اليومية الأولى في البحرين


الثقافي

قضايا ثقافية

(فلترة) عقل المثقف

تاريخ النشر : السبت ١٤ يوليو ٢٠١٢



حاول عدد كبير من المفكرين العرب توجيه (النصح والإرشاد) بالطريقة (الأبوية) أو (التعليمية) أو بأساليب التشديد الحزبي والانضباط التفكيري والالتزام العقائدي الجامد وغيرها من الطرق التوجيهية المتعددة، أن يقودوا الكُتَّاب والأدباء والشعراء والمفكرين وأشباه المثقفين إلى الطريق الصحيح نحو البناء الثقافي السليم معتمدين في توجيهاتهم على العديد من النظريات الفلسفية التي أنتجها العقل الغربي (الصناعي) وكانوا يحثلاون على إتِّباعها دون مناقشة أو اعتراض بل قبول وخضوع وخنوع لأنها سوف توصلهم،وحسب معتقداتهم، إلى الفردوس المفقود.
لا أريد أن أستعرض أسماء هؤلاء المفكرين لأن الرجل المطلع على الثقافة العربية المتعددة الجذور والمتفككة الفروع يعرفهم واحداً واحداً، فهؤلاء هم من أسباب تدني الثقافة العربية التي وصلت إلى درجة الانحطاط اليوم.
منهم من ينادي بتجديد (العقل العربي) ومنهم من (يؤرخ) ومنهم من (يُنظِّر) ومنهم من يؤسس أحزاباً وخلايا على تفاهات من النظريات الفاسدة وفي النهاية لا تجد فيما يدعون إليه أي ثقافة عربية صحيحة لأنهم أشبه بآلة الخلط (تمزج الحجارة مع الإسمنت) وتنتج كتلاً صلبة لا يمكنك أن تناقشها أو تفككها وحتى سوائل الإنتاج تتحجر بعد حين.
لقد أنتج أولئك المُنظرون كتباً وبحوثاً اطلعنا عليها بشغف البحث عن المعرفة، ووصلنا إلى درجة التصديق بأنهم يؤسسون ويبنون ثقافة معرفية لكننا اصطدمنا بعدم قدرتهم على توصيل الحقيقة المعرفية بحياد المثقفين لأنهم يؤمنون بمواقف مسبقة ونظريات مسلوقة، وبرجالٍ صنعهم الرياء التاريخي، والسيطرة الإعلامية البغيضة فتشكلت لديهم ثقافات محنطة، ومن خلالها يريدون نشرها في كتبهم وأبحاثهم علينا بعد أن مارسنا أسلوب (فلترة) العقل وتركنا ما ينادون به وبالفعل صار هؤلاء أشبه بالمومياءات الفارغة.
إن الإنسان كما نعرفه، ليس مُسيَّراً بأي نظريات ثقافية مسبقة وهو ليس كالآلة الميكانيكية التي نضغط عليها لتتحرك كما نشاء، ونضغط عليها لتقف وتفرِّغُ حمولتها الذاتية، إنه المخلوقُ الوحيد الذي نال كل صفات التفوق وخلاصَّ بأعلى المراتب الكونية، هو يختار ما يريد، وحسب امكاناته الاقتصادية والثقافية وأبدأ بفكرة الاقتصادية قبل الثقافية لأن الاقتصاد عامل مؤثر في تحديد شخصية الإنسان وهو الذي يجعله قادراً على اختيار ثقافته الذاتية وحريته الدينية ومعتقداته المذهبية.
الإنسان الذي لا يستطيع شراء نسخة راقية ومطبوعة من القرآن الكريم هل بإمكانه أن يتجول في المعارض الثقافية ليشتري كتب المفكرين الذين يروجون لثقافات لا علاقة لها بالثقافات الروحية وهي الثقافة التي تجعل هذا المخلوق يختار ما يشاء وليس ما يفرض عليه؟
في الغرب تمكث السيارة عند مالكها سنين طويلة ولا يستبدلها إلاّ بعد أن يشعر أنها أُستهلكت وذابت وصارت خردة، لسبب إنه يقوم بإجراء (فلترة) شهرية لها، وبالتالي يستخدمها أطول فترة ممكنة، لكن في العالم العربي نتعامل مع السيارة بطريقة (النكاح) الشرعية (أربع) سيارات، والثقافة الواحدة لا تكفي وعلى هذا الأساس نسقط في اختبار الفلترة لأن العقل العربي تصدأ منذ وفاة (آخر الأنبياء) واخترعنا نظاماً اسلامياً مغايراً لرسالته، والذين اختاروا هذا النظام أورثوا الثقافة العربية التخلف والتشرذم ونبت الكثير من المفكرين الذين استغلوا الأخطاء التاريخية الفادحة لترويج الفلسفات المريضة ومن ضمنها كتب وبحوث فلسفة تجديد العقل العربي أو الفتنة الكبرى أو العبقريات أو الصواعق المحرقة أو الفَرق بين الفُرق.
أو تاريخ دمشق أو أُسدُ الغابة وأشعار جرير وغيرها من الوثائق العربية المتداولة والمخطوطة أو التي يُعاد إنتاجها، لذلك فإن حاجة (محرك) السيارة لتبديل زيته بعد أن يقطع (1000) كيلومتر، نفس حاجة عقل الإنسان إلى تغيير أفكاره وفلترتها ولكن عن طريق تبديل المواقف الجامدة والاطلاع على أحدث مبتكرات العقل الإنساني والتعرف على مضمون القول العلمي، وهو ما أصعب شيءٍ في الحياة والجواب (خروج روح من روح) وهل بإمكان المثقف الحداثوي أن يخرج ثقافة روح الجاهلية من بين أضلعه ويفلتر دماغه المتحجر ويستبدلها بثقافة الراسخين في العلم.