الثقافي
ثنائية الواقع والمتخيل
في رواية سلالم النهار لفوزية السالم (2-4)
تاريخ النشر : السبت ١٤ يوليو ٢٠١٢
بين جاسم ومرداس
أما جاسم فهو الرجل الذي يرى نفسه من علية القوم، ولا يقبل أن يهان، أو يكون اسمه متداولا بين عامة الناس، إلا بما يليق به بوصفه تاجرًا، ومن الطبقة الأرستقراطية، وهو «كبير العائلة ورأسها، المدبر... متصدر رئاسة العائلة، وأقدار جميع أفرادها... المتصدي لكل ما ينفعها، ويزيد من مكانتها، ورأسمالها المتضخم باستمرار».(1) ومرداس الأخ الأوسط لفهدة الذي كان يحلم بأن تكون له مكانة، ويكون له اسم، لكن نظرته إلى شخصه، وإلى مكانته بين الناس، ونظرة الناس إلى البدون والمهمشين في المجتمع، «جعلت منه البدون المنبوذ من هوية المواطنة».(2) لذلك لم يأب أن يدوس على أي شيء إذا كانت له مصلحة وفائدة، إذ ارتبـط بجاسم ليكون مديـر تحرير في الجريـدة، وقد علق ابن فهدة على حالة خاله قائلاً: «خالي في الصحافة ليس له نظير، يشم الخبر قبل أن تلده أمه... شم الخبر واختلاق الخبر وتوليده أو وأده هو من مبتكرات فنه وعقله... ».(3)
ولم يكتف الاثنان بهذا التلاقي في ثنائية المصلحة، بل ان مرداسا وجاسما «مثل طرفي مقص.. يجتمعان لقص غرض ما.. وينفصلان من بعد انتهاء عملية القص. خالي لا يستغني عن عمي، وعمي لا يستغني عن خالي»(4)، وهنا تكون ثنائية التلاقي في المصلحة، والحاجة التي تؤكد بقاء كل منهما، وحاجة كليهما للآخر من أجل تحقيق أهدافهما، وعلى الرغم من تباين رؤى كل واحد منهما تجاه العالم، والمجتمع المحيط بهما، فإن الاثنين يسخّران عقليهما من أجل تحقيق رغباتهما، وإرادتهما، وتأكيد نيل ما يحلمان به بواسطة قوتيهما العقلية، والعاطفية، ومن هنا «تنجح الطبقات المسيطرة في أي مجتمع من خلال إشاعة الوعي الزائف في تسييد رؤيتها للعالم».(5)
بين فهدة وضاري
جمعت الثنائية بين فهدة الحالمة بالقادم المجهول، وضاري الفاتن بالجسد الأنثوي إلى درجة المرض، فهما ثيمة الجوع، وفقد الجسد الراغب في الارتواء من الجسد الآخر، ففي الوقت الذي تؤكد فهدة أنها وضاريا مختلفان، فإنهما متشابهان، التشابه الكامن في جوعهما، فتقول فهدة: «تشابهنا الأساسي منبعه الجوع الحسي الذي فرض صبغته على كل ما فينا»(6)، وتقول عن ضاري هو «إنسان شهواني، حسي، هوائي، متقلب، غامض، ليس بالإمكان معرفة ما يدور في خلده»(7)، بل ضاري مختلف عن فهدة، فهو مريض بجسد الأنثى، ومريض برغبة الاشتهاء، والنظر إلى بعض الممارسات التي تقوم بها النساء بعضهن بعضًا كالسحاق والمثلية، فالجسد الأنثوي يثيره إلى حد الشبق، ويحب إثارة البغاء، وأدوار المومسات، لذلك كان يفرض على زوجته أن تقوم بالدور الذي يتطلب منها في مثل هذه المواقف، حتى لو كان أمام الناس، وفي الشوارع أيضًا، «فجسد البغاء بكل معطياته وأدواته، تمثل له فلسفة عالمًا شهيٌّا في غاية الإثارة.. لا يريد منه إلا الإثارة وفن الإثارة، وهذا ما تعلمته منه، وأتقنت فعله، وتمثيل أدواره، وإجادة أدائه».(8)
ولكنها لم تستطع أن تمارس دور المثلية حين طلب إليها، لأن جسدها لم يخلق إلا لنقيضه، لكن ضاريا مصر على رؤية هذا الدور، ويدهش أكثر كلما شاهد مثل هذه الأفعال، غير أنه ليس كل أنثى تتمكن من الدخول إلى عالم المثلية، وأعتقد هناك جينات تهيئ الفرد، امرأة أو رجلاً لهذا، ولذلك كانت صوفي لم تستطع ممارسة المثلية مع فهدة، والدخول معها في علاقة سحاقية، على الرغم من محاولات الالتصاق، وحين «ابتعدت صوفي وقالت بصوت آسف: أنت أنثى لذكر، فقط لذكر، من بؤبؤ عينيك شعرت بذلك، لكن أحببت أن أختبرك، ربما يكون في الميزان معيار لخطأ».(9) إلا أن تلك الدونية التي تعيشها فهدة في ظل ضاري وأمواله، وتلبية حاجاتها لم تفكر في ذاتها بوصفها امرأة لها من المشاعر والأحاسيس والقيم الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية ما يمنعها من أي فعل لا يتوافق والطبيعة الإنسانية.
هناك الكثير من الأدلة التي كشفتها الرواية حول علاقة ضاري بجسد فهدة، الذي يتضح أنه لم يتزوجها لجمال أو جاه أو مكانة اقتصادية أو اجتماعية، وإنما تزوجها لجسدها الذي يثيره، ويستمتع بغنجه ودلاله، الإثارة التي تعتبر من مشهياته الأساسية في تعامله مع الجسد الأنثوي، فمشهيات ضاري «تعتمد على إثارة الحواس كلها، وضخها في اتجاه واحد، هو تهييج الغريزة الجنسية»(10)، فلا يبالي أن يسكب النبيذ، أو الآيسكريم، أو المربى، أو الشوكولاتة على جسدها، وهنا نتساءل هل هذا نابع من حب كاشف عن ثقافة، ووعي بالمرأة، جسدًا، وروحًا، وفكرًا، وثقافة؟ وخاصة أن التعليم والثقافة اللذين يتمتع بهما ضاري يحترمان المرأة بوصفها نصف المجتمع، ولها الحرية في اختيار قرارها، لكن يبدو المرض تجاه الجسد الأنثوي أخذ مأخذه في جسد وفكر وأحاسيس ضاري مما جعله لا يفكر في شيء غير متعة ناظريه، وتلذذ شغفه الجنسي.
إن فهدة طوال تجربتها مع ضاري لم تستطع أن تشاركه في اتخاذ قرارها، أو صنعه، ولم تسع لتحقيق ذاتها بوصفها كائنًا ينبغي أن يكون فاعلاً، بمعنى لم تنل حريتها التي كانت مقيدة من قبل في محاصرتها من قبل نورة، ولم تنلها مع ضاري لأن نورة أخذت فهدة ستارًا لها ولرغباتها، وضاري تعامـل مع جسـدها، وبذلك فهي كانت خاضعة إلى نورة، وإلى ضاري، ولكل وصاياه وأوامره، ونواهيه، كأنها مسلوبة الحرية، والإرادة، والتفكير، فالساردة تنقاد طواعية لثقافة الزوج، وسلوكاته، وتصرفاته، وإلى المتعـة بأموالـه، وجسـده، وسفراته، كأنها محاطة بحالة من الاضطهاد المتعدد من الاستعباد، وقد كشفت السـاردة أكثر من مرة مـدى التأثـر بزوجهـا فـي أسلوب حياته، وتفكيره، وترجمة ما يحمله من وعي ثقافي على واقع الحياة، فتقول: «معه عرفت الفن والأدب، وتذوقت الغناء والموسيقى، إن المعرفة كلها جاء هو بها، وإن الحياة بدأت معه... ».(11) التحول في الشخصيات
بعد وفاة ضاري المفاجئة، والحالة التي كان فيها ساعتئذ، حيث لم يغب عن تفكيرها، وخيالها ذلك الموقف الذي انتقل فيه إلى جوار ربه، فتقول: «يرقد فوقي بصمت ساكن هادئ وجهه، لا يتنفس، ولا يخرج أصواته، كل ما فيه هامد جامد، أناديه.. أهزه.. أدفعه عني.. أنسحب من تحته، وأصرخ فيه بذهول مرتجف خائف: أصحُو.. استيقظ.. لا تغب.. لا ينطق ولا ينبس بكلمة، لا يتحرك، لا يتنفس ولا يجيب، يعض على شفتيه، ويغمض عينيه في صمت رهيب صادم. وأصرخ»(12)، بهذه المفاجأة الرهيبة أعتقت الساردة فهدة نفسها، وتحررت من قيد الانصياع، والعالم الذي كانت تعيش فيه، وتجهل تبعاته، ونهايته، إذ فكت أسرها لتعيش في عالم الاستقلالية كاملة كما تراها من خلال لجوئها إلى الهداية، والتمسك بتعاليم الدين الحنيف، فقد أبعدت نفسها عن كل ملذات الحياة، وتنوعها باعتبارها ملذات زائلة، لتعيش حياة فيها من المتعة الروحية، والنفسية، والإيمانية ما يفوق متعتها الحسية والجسدية.
لجأت فهدة لحياة تراها باقية في عمق النفس البشرية حتى فناء الأجساد، تلك الحياة التي حولتها من حالة المتعة الجسدية إلى المتعة الروحية، متعة التحول الذي فرض نفسه عليها بعد مسيرتها في طريق اللذة الحسية، والتمتع الجسدي، والتنقل عبر الطائرات من مكان إلى آخر، من دون أن تفكر مليا بطبيعة ما حولها من موجودات مادية، وبشرية، من هنا جاء نقدها لذاتها بعد وفاة زوجها، ومحاسبة كينونتها التي لم تعد قادرة على ممارسة ما كانت عليه، حيث ظلت فهدة طوال تحولها من ملذات الجسد إلى ملذات الروح متسائلة نفسها حول كيفية موت زوجها، وعضه لشفتيه، تلك اللحظة الأخيرة التي تركت في أحشائها جزءًا من صلبه ليكون علامة مساعدة على نقد الذات، والتجربة، والدخول في ذات أخرى، وتجربة جديدة، فـــ «تنطلق استقلاليـة المعرفة من مبدأ مفاده أن ليس لأيـة سلطـة مهما كانت راسخة ومحترمة أن تبقى في مأمن من النقد، وان ليس للمعرفة سوى مصدرين هما العقل والتجربة، وكلاهما في متناول كل إنسان».(13) أي أن سلطتها التي كانت على نفسها في تجربتها الأولى هي نفسها في تجربتها الثانية.
وعلى الرغم من الرخاء، والبقاء منعمة، ومرفهة مع زوجها خارج وطنها، فإنها لم تجعل هذه الحياة، وهذه المرحلة التاريخية مرآة، وطريقًا للاستمرار في الطريق نفسه، أي أن التجربة الأولى كان فيها الرضوخ والهوان والسيطرة من الآخر الإنسان في البارزة، أما في الثانية فالسيطرة من سلطة أعلى، سلطة الخالق الذي أعطى البشر العقل وحرك فيهم الفكر والتمعن فيما يقومون به، حيث كان الرضوخ للسلطة الأولى بغية الحصول على مباهج الحياة، أما السلطة الثانية ففيها الأمل في الحصول على الرضا الذاتي أولاً، والفوز برضا الخالق، من هنا حاولت أن ترى المرآة من خلفها لترى وجهًا آخر ينبغي أن يظهر في صورة مثلى، والتمسك به، وجهًا يخترق المرآة، فهكذا كان تحولها بحضورها، ولجوئها، وبقائها في ذلك المكان أوحى لها بالاطمئنان واستطاعت أن تبني علاقة مع الله سبحانه وتعالى، وأن تتمسك بالتعاليم الإسلامية في علاقاتها مع المجتمع، والناس، وتغير كل شيء في حياتها، وسلوكها، وتصرفاتها، وفي حديثها، وصوتها، وإيماءاتها، وملابسها، مشيرة بذلك في قولها: «أطلت ثوبي حتى يخب خلفي، ويغطي معالم جسدي، ويخفيها خلف طبقات من الملابس الواسعة، وعباءة سوداء تنتشر فوقي تعزلني عن كل ما هو حولي».(14)
وكما حدث التحول في شخصية فهدة، فقد طرأ التغيير على شخصية أخيها صقر، والملقب بالرشوش، الشاب الذي كان ممتهنًا بيع الخمور، والعطور المصنعة بواسطة أمها، لكن القدر يغير مسيرة حياته، إذ يدخل السجن بعد ما حمل عن جاسم قضية ما، ليتحول إلى إنسان آخر، هكذا يقول ابن فهدة عن خاله صقر: «خالي أصبح ملتزمًا بدينه، وأطلق لحيته، وبات يواظب على الصلاة في أوقاتها، وأداء الفرائض على قدر ما هو مسموح به في السجن... تطهر، وتقرب من ربه، فأحاطت به السكينة ورضا النفس، ورضا الله»(15)، في الوقت الذي يعرف تمام المعرفة من وراء دخوله السجن، وتلك المصائب التي حلت به، لكنه وظف كل قواه العقلية ليكون إنسانًا مختلفًا، بعد تجربة مريرة، درّب نفسه على الخير والصلاح، والبحث عن الصواب، والحق، وترك الرذيلة، لكي يحقق له الاطمئنان الذي ينير دربه القادم.
وهذا التحول، أو الانتقال من حالة إلى حالة عند كل من فهدة وصقر يشير إلى رغبة المرء في محاربة ماضيه، ونسيانه، بل يعلن أن هناك نقطة التقاء بينهما نحو هذا التحول، «فالنساء والرجال من كل الأعراق في العالم يكتشفون من جديد انتماءهم الديني، ويشعرون بنزعة لتأكيده بشتى الأساليب، بينما كانوا يفضلون منذ بضع سنوات، التشديد على انتماءاتهم الأخرى»(16)، ففهدة بعد تمسكها بالدين أطالت الثياب وارتدت العباءة العريضة، كما فعل صقر بإطلاق اللحية والاستغفار الدائم، وإذ نحن لا نعارض البتة اللجوء إلى الخالق، والتمسك بالدين، والحرص على هذا الانتماء وهذه الهوية، لكن أليس هذا نوعًا من الهروب، والابتعاد عن واقع ينبغي معالجته؟ هل هذا اللجوء الذي لم يبن على قاعدة متينة يستطيع أن يفكك أمراض المجتمع الاجتماعية، وسلوكات الأفراد الأخلاقية، وكذلك قضاياه الأخرى؟ هل تحول فهدة سينهي السهرات الليلية، واستغلال أجساد النساء الأخريات لمتعة هذه السهرات؟ هل تحول صقر سيؤدي إلى القضاء على ظاهرة بيع الخمور، أو شربها؟
يبدو أن تحولهما لم يكن وحدهما في المجتمع، فهناك العديد من النساء والرجال حينما يصطدمون بواقع لا يرغبونه، أو لا يتمكنون من مواجهته، أو واقع يقوم بتعريتهم، أو واقع يكشف لهم أسرارًا لم يتوقعوها، نجدهم يلجأون إلى الدين، والدعوة إلى التمسك بمبادئه، فكثير من الطلبة يتقربون إلى الله، ويؤدون الفروض والواجبات والمستحبات من أجل أن يفوزوا بغنيمة النجاح، وبعدها ماذا يكون؟ وهناك من لجأت إلى الدين، في الفترة العصيبة التي مرت على دولة الكويت في أثناء غزو العراقي لها، وعادة ما تحضر مثل هذه المواقف والتحولات، حين نفكر في المستقبل الذي قد لا يتوافق مع مسيرة الحاضر، وهذا يعني أن «الفكر العربي لا يطرح سؤال المستقبل إلا إذا كان حاضره يعاني أزمة حادة متعـددة الأبعاد، ويواجه مخاطر تهدد هويته كما تهدد الأنساق التي ألفها... ».(17)
ونرى التحول، أو اللجوء الذي حدث إلى شخصيتي فهدة وصقر إلى الدين نابع من عوامل كثيرة، كالفارق الاجتماعي، والتباعد الاقتصادي، وشعورهما بأن الأفق لهما قد سد، وأنهما خسرا ما كانا يتمنيانه، حيث تحولهما هذا يكشف عن ثقافة هوية أخرى، وثقافة تحاول الانفصال عن ثقافتهما السابقة، وعن أفكارهما وحالاتهما النفسية، والاجتماعية، وعن كل القيم والمعتقدات التي كانا يمارسان دورهما ضمن سياقها، وبخاصة أنهما معتقدان أن تحولهما قد يسبغ عليهما نوعًا من الإشباع الذاتي، والرضا الروحي، وتحقيق الهوية التي يعتقدان أنهما قد أضاعاها.ئ
1 - سلالم النهار، ص.129
2 - سلالم النهار، ص.127
3 - سلالم النهار، ص.129
4 - سلالم النهار، ص.133
5 - السيد ياسين، الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي، ص.102
6 - سلالم النهار، ص.66
7 - سلالم النهار، ص.77
8 - سلالم النهار، ص.108
9 - سلالم النهار، ص.106
10 - سلالم النهار، ص.112
11 - سلالم النهار، ص.72
12 - سلالم النهار، ص.125
13 - توتودوروف، عصر الأنوار، ص.13
14 - سلالم النهار، ص.166
15 - سلالم النهار، ص.175
16 - أمين معلوف، الهويات القاتلة، ص.124
17 - جابر عصفور، نحو ثقافة مغايرة، ص.28