الثقافي
قصة قصيرة
دفء الأشياء (1)
تاريخ النشر : السبت ١٤ يوليو ٢٠١٢
تعريف بالكاتبة: الأديبة البرازيلية نليدا بينون (1936-) هي ابنة مهاجرين وقد صورت في أدبها القصصي المجتمعات الفقيرة الكادحة للأجانب في البرازيل. من أشهر رواياتها «جمهورية الأحلام» الصادرة عام 1981 وقد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية عام 1984 ورواية خريطة جابريل أركانجو ومجموعة قصصية بعنوان «دفء الأشياء» التي اخذت منها القصة التالية:
الجيران كانوا يطلقون عليه «فطيرة اللحم» وأمه كانت تكرر بحنان: حبيبي فطيرة اللحم. هذا اللقب جاء من البدانة التي لم يستطع أوسكار التخلص منها أبداً رغم الحميات القاسية. في إحدى المرات عاش على الماء فقط مدة خمسة أيام من دون أن يظهر جسده أي تأثير للتضحية. بعد ذلك استسلم لشهيته المتفجرة ونسي اسمه الحقيقي.
ومنذ وقت مبكر درج أوسكار على حساب عمره حسب عدد السنتيمترات التي يقيسها محيط خصره المتوسع بصورة سريعة بدون الاهتمام بعدد أعياد الميلاد مع الكعك والفاصوليا السوداء المطهية مع السجق وأطباق المعكرونة. لذلك سرعان ما شعر بكبر السن بين زملائه الصغار وخصوصا أنه لم يكن لديه ملابس تخفي انتفاخات حجمه السمين. وإذا ما ارتدى الملابس مع المجمعات يكون على الأقل قادراً على إخفاء تلك الأجزاء من جسده التي تظهره على شكل فطيرة.
كان يتمرد باستمرار ضد القدر الذي يدفعه نحو جسد يعتبره تناقضاً عنيفاً مع روحه الرقيقة والرشيقة وخصوصا حينما يعترف أصدقاؤه بارتجال بأنهم افتقدوه مع جعة برميل مثلجة. وكان سببهم الوحيد لعدم إسقاط أوسكار مباشرة هناك على الطاولة في الحانة هو خوفهم من النتائج. لكنهم لم يضربوه على بطنه وحاولوا جهدهم في البحث عن زيتونة سوداء خارج سرة البطن.
كان المنزل كئيباً في أعياد ميلاده. أمه كانت تطفئ الأنوار، فقط الشموع على الكعكة تضيء الهدايا على جانب المائدة. دائماً نفس الأشياء:فرشاة استحمام طويلة اليد نظراً لأن بطنه الواسع يمنعه من الوصول إلى قدميه وأطوال لا يمكن قياسها من القماش من مخزن السلع الجافة. بعد إطفاء الشموع يرغم المرآة على إظهار وجهه بتجعدات جميلة لا حصر لها حول عيونه وخدوده المتدلية وذقنه المتعدد. كان يرى أن أطراف جسمه تبدو كأنها مهروسة بشوكة مطبخ من أجل أن تحفظ الأجزاء الشاذة من اللحم المطحون من الهرب من العجينة المكونة من الطحين وشحم الخنزير والحليب والملح الذي يتكون جسده منها.
وبالرغم من مشاعره الغاضبة تجاه فطائر اللحم فانه يأكل العشرات منها كل يوم ونظراً لعدم استطاعته أن يجدها في كل زاوية شارع كان يدس في حقيبة ظهره مؤونة من زيت الصويا، مقلاة، فطائر للقلي ولهب مكبوت لإشعاله بالنفخ بشدة عليه. في المساحات الخالية قبل أن يقليها كان يترصد أي غريب ربما يخرج لسرقة مؤونته.
كل صباح حينما يستيقظ يكون جسده مختلفاً، ربما بسبب بعض مخزونات الشحم المنتقلة إلى مركز اخر من الاهتمام حول كبده مثلا أو بسبب أنه أحياناً يزيد وزنه بمعدل أربعة كيلوجرامات في أقل من ست عشرة ساعة. جنون بدني يلعب دوره في تجريده من كل كبرياء. أحد كبريائه أن يكون وسيماً. مطلقاً العنان لذلك يواجه اشمئزازا كبيرا داخل قلبه ضد الأصدقاء الذين لم يلتهموه بعد خلال الأسبوع بالرغم من تشابهه الأقرب والأقرب لفطيرة اللحم المبيعة في زاوية الشارع.
في ساعة حزنه العظيم التصق بميدالية صغيرة لسيدتنا فاطمة حول عنقه التي تحت حمايتها وضعتها أمه بسبب نقص قديس نصير يراقب الأشخاص البُدُن على وجه الخصوص. في البيت كان يصفر لإخفاء حزنه لكن الدموع المنبعثة من نوبات بكائه تتدفق بكثافة وبسرعة لدرجة انها بللت الأرضية التي كانت أمه بالمصادفة تجففها في تلك اللحظة. تظاهرت بعدم الملاحظة، فقط حينما شكلت الدموع نقعة بالرغم من أن المطر تسرب خلال السطح، ذهبت أمه والنقود المعدنية في يدها إلى أصدقائه الخاصين لكي يصحبوا أوسكار إلى السينما على الأقل مرة واحدة في الشهر. الأشخاص الذين وافقوا على الذهاب معه في أحد الأيام صاروا مترددين في تكرار الذهاب بالرغم من إغراء المال. وحينما أصبحت لا تجد أصدقاء له كان أوسكار نفسه الذي لم يعد يلائم أي مقعد قد توقف عن الذهاب إلى السينما لأنه أصبح مضطراً إلى المشاهدة وهو واقف.
في أيام الأحد كانت طاولة العشاء مليئة بالأطباق المدخنة. رأى أوسكار نفسه في المكان مشغولاً باللحم المشوي المشرح بسكين فضي وشوكة مع كامل العائلة في روح عالية. لغرض تجنب مثل هذه النظرات العقابية تراجع إلى غرفته في تلك الأيام.
في الصيف يزداد عذابه، فبدلاً من العرق يأتي خل الزيت والخردل وهما التوابل المفضلة لأمه حيث يقطران من صدره.متأثرة بالهدايا السماوية لمثل هذه الطبيعة كانت تربت على رأس ابنها وتسحب في نفس الوقت بعض الشعرات المتجعدة التي حينما كانت في غرفتها تفحصها واحدة تلو الأخرى متعطشة لأن تكتشف كم من العمر يتبقى لكي تحتفظ بابنها في البيت سالماً وبصحة جيدة.
جمع أوسكار هذا العزاء الخاص بأمه في نفس الصفيحة التي يستخدمها لتخزين الشحم المتبقي من مقلاته المتنقلة. وراغباً في مكافأة التضحية التي تقوم بها أمه بشرب الزيت والخل من صدره كان يطلق ابتسامة نحوها حيث تتعجب قائلة: ما أجملها من ابتسامة على شفتيك! إنها ابتسامة رفاهية يا ولدي. هذه الكلمات تتبعها كلمات أخرى تجرحه إلى الأعماق حينما لا تستطيع أمه أن تغالب نفسها لتقول له وهي دامعة العينين: آآه حبيبي فطيرة اللحم.
تعبير العاطفة هذا الذي يوحي به جسده المشوه جعل أوسكار يزحف إلى غرفته متأثرا بتلك الكلمات الحادة من أمه التي أحد أهدافها أن تجعله داخل المقلاة الحارة الحمراء لحماستها وصبرها وجوعها.