الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء


العَلمانية.. بين الظاهر والباطن!

تاريخ النشر : الأحد ١٥ يوليو ٢٠١٢



من يعتقد أن هناك مصالحة بين العَلمانية (بفتح العين) في شكلها الظاهر وحقيقتها الباطنة، فإنه واهم أو مخدوع.
ذلك لأن العَلمانية في شكلها الظاهر قد توحي عند البعض بالعلم والتقدم، وخاصة عند المدلسين الذين يستغلون جهل البعض بأصل العَلمانية وفصلها، فيتوهم هذا البعض أن العَلمانية دعوة إلى العلم، وأن هذا هو ما يدعو إليه الإسلام في الكثير من آيات كتابه الخالد (القرآن الكريم).
وأن الله تعالى قد رفع أهل العلم درجات، وجعل مداد العلماء مقدما على دماء الشهداء، وأن العالم أشد من العابد على الشيطان، وأن معلمي الناس الخير تصلي عليهم الملائكة والحيتان في البحر، حتى النمل في جحورها.
فالعَلمانية عند هؤلاء هي أصل من أُصول الإسلام لأنهما متفقان - كما يزعمون - على الدعوة إلى العلم، والتنويه بفضل العلماء على غيرهم.
هذا هو كلام المدلسين، وذلك فهم قليلي الإدراك من المسلمين للعَلمانية وصلتها بالإسلام، والحقيقة التي لا مراء فيها، ويضل عنها هؤلاء وأولئك، ويحاولون إخفاءها هي: أن العَلمانية في أُصولها الغربية هي دعوة إلى الإلحاد، وفصم العلاقة بين الدين وسلوك الإنسان سواء في مجال السياسة، أو الاقتصاد، أو الاجتماع.
في السياسة يحكمون شرع البشر، وينحون شرع الله تعالى عن حياتهم، فهم يمارسون حياتهم بعيدا عن تعاليم الإسلام، ولا سلطان لله تعالى على أفعالهم وأقوالهم وأخلاقهم.
الناس في العَلمانية يتحاكمون إلى الخطأ والصواب، فما يراه العقل صوابا فهو صواب، وما يراه خطأ فهو خطأ، أمّا قضية الحلال والحرام فهي غير واردة عندهم والفرق شاسع وكبير بين مفهوم الخطأ والصواب عندهم، وبين الحلال والحرام في الإسلام.
الخطأ والصواب تقديران بشريان ومن يستطع أن ينجو من عقوبة الخطأ، ويجني ثمرات الصواب لجاهه وسلطانه وأعوانه فلا شيء عليه حتى لو لم يكن مستحقا لهذه الثمرات وأنها من حق غيره، وفي القوانين الوضعية (البشرية) تسقط العقوبة بمضي المدة، وتضيع حقوق العباد، وتظل النفوس تحمل الضغائن والأحقاد على من ارتكب في حقهم جريمة من قتل ، أو هتك عرض، أو سلب مال ولم تطله يد القانون (المغلولة) عن عِليَة القوم.
هذا في القوانين الوضعية (البشرية) أما في الإسلام شريعة الله العادلة الرحيمة، فإن الناس فيها يتحاكمون إلى الحلال والحرام، وهذان مفهومان إلهيان، فلا يتحول الحرام إلى حلال بمضي المدة، ولا تسقط العقوبة عن الجاني مهما تمكن من الهروب من قبضة القانون، وتظل هذه العقوبة تلاحقه حتى يقف يوم القيامة بين يدي الحق سبحانه وتعالى ليقتص منه على ما جنته يداه، فهل يفضل الناس قانون البشر أم شريعة رب البشر سبحانه؟
وهل ترتاح نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، وهم يرون الجاني يمشي بينهم مطمئنا هادئ البال، ويشعر بالأمان رغم ما ارتكب في حقهم من عدوان؟
هل يرتاح أهل القتيل حين يرون القاتل يمشي بينهم لا تطوله يد القانون (المغلولة) لأن له جاها يحميه، أو عائلة كبيرة تقف معه وتسانده، أو فسادا في الذمم تقبض الرشا، وتغض الطرف عن هذا القاتل وغيره؟
لا أظن أن أحدا من الناس ترتاح نفسه، ويطمئن قلبه، وهو يرى من اعتدى على دمه أو عرضه أو ماله يمشي مطمئن البال، هادئ النفس.
العَلمانية التي يروج لها البعض، والتي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، هي في الواقع تحاول أن تلغي الدين من حياتنا، وأن تدع الناس يعيشون حياتهم بعيدا عن الدين.
والدين في حياة المسلمين خاصة هو كل حياتهم، واقرأوا إن شئتم قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أٌمرت وأنا أول المسلمين(163)" (سورة الأنعام).
وتطرح الآية (164) من السورة نفس تساؤلا عجيبا بعد تقرير الآيتين السابقتين بأنه ليس للإنسان المؤمن منهاج، ولا شريعة غير شريعة الإسلام، وليس له غاية إلا عبادة الله تعالى وحده من دون سواه من بشر أو شجر أو حجر، يقول تعالى: "قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (سورة الأنعام/164).
نعم كيف يصح شرعا وعقلا أن نعبد ربا غير الله تعالى، وهو رب كل شيء ومليكه؟
وكيف نتخذ منهاجا أو شريعة غير شريعة الإسلام ومنهاجه، وكتابه المبارك يقول: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم..." (سورة الإسراء/9)؟
لو فعلنا هذا فكأننا نلغي الدين من حياتنا ونستبدل به قوانين البشر القاصرة، المحتاجة دوماً إلى التعديل والاستدراك والإلغاء.
كيف نفعل هذا وننقض العهد الذي قطعناه على أنفسنا حين آمنا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا؟
كيف نكون مؤمنين صادقي الإيمان إذا لم يكن لإيماننا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره واقع في حياتنا؟
لابد أن يكون في سلوكنا وفي تصرفاتنا أثر واضح لكل هذه العقائد، ألم يعرِف الرسول (صلى الله عليه وسلم) المؤمن بقوله: "المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم" رواه الإمام أحمد؟
وعرّف المسلم بقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" متفق عليه؟
إن الإيمان بالله تعالى يعني توحيد الوجهة، وهذه تعني توحيد التشريع، أي أنه لا معبود بحق سوى الله تعالى، ولا مشرع يطاع فيما يأمر، وفيما ينهي، غير الله تعالى.
حلال الله تعالى حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ولن يكون في قدرة بشر او صلاحيته أيا كان مقامه أن يحل ما حرم الله تعالى، أو أن يحرم ما أحل سبحانه، يقول تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم" (سورة التحريم/1).
وليس للإنسان أن يعبد الله تعالى بغير ما شرع سبحانه من العبادات، وليس له أن يتبع إلا رسولا واحدا أرسله مولاه سبحانه رحمة للعالمين ليخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان والعقائد إلى عدل الإسلام وإنصافه.
العَلمانية في أصولها الغربية تعزل الدين في الكنائس، وتطلق يد الإنسان وإرادته يفعل في حياته وبحياته ما يشاء من دون تدخل من الدين، أو إرشاد منه أو توجيه، وإذا كانت العَلمانية بهذا المعنى مقبولة ومقدرة في العالم الغربي، ومتبعة عند الإنسان الغربي، فهي ليست كذلك في عالمنا الإسلامي، وعند الإنسان المسلم الذي آمن بالله تعالى ربا لا شريك له، وآمن بأن تشريعه واجب الاتباع، وواجب السمع والطاعة من دون غيره من التشريعات، وأنه إذا كانت كل أمة تضع دستورا لإدارة شئون حياتها، وأن هذا الدستور هو بمثابة أب للقوانين، فإن القرآن الكريم وتشريعاته القويمة هو أبوالدساتير جميعها، أولا: لأن واضعه هو خالق الإنسان سبحانه وتعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو سبحانه أقرب للإنسان من حبل الوريد، وثانيا: لأن هذا الدستور الإلهي الجامع المانع حوى كل ما يحتاج إليه الإنسان في دينه ودنياه، وفي عاجل أمره وآجله: "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا" (سورة الإسراء).
إذًا، فلا مقام للعَلمانية في ديار الإسلام، ولا شأن لها بحياتنا نحن المسلمين، وإذا كانت الأنظمة العربية قد رضيت بأن يكون للعَلمانية دور في نظمهم، وفي حياتهم العابثة، فإنها ليست كذلك في حياة عموم المسلمين الذين يتحرون الحلال فيما يطعمون، وفيما يشربون، وفيما يلبسون، وفيما يسكنون، لأن قبول العمل عند الله تعالى مرهون بالحلال في شئون حياتهم كافة، والعَلمانية تتهاون في كل هذا، ولا تعطيه الأهمية التي يستحقها.
ولأن العَلمانية تكف يد الدين عن سلوك الإنسان في غير العبادات، فيجوز للإنسان في العَلمانية أن يتصرف في جسده بالكيفية التي يريد، فالعلاقات الجنسية في النظم العَلمانية (الوضعية) خارج إطار العلاقة الشرعية (الزواج) لا شيء فيها مادامت برضا الطرفين ولا عبرة لرضا الدين من عدمه، والكسب غير المشروع في الإسلام هو مشروع في العَلمانية، ولهم أن يتمتعوا بما كسبوا مادامت يد القانون مغلولة ولم تصل إليهم، أو لعدم كفاية الأدلة المدينة لهم على جريمة الرشوة مثلاً، أو السرقة، ولا يجوز هذا في الإسلام.
في الإسلام الجريمة تلاحق صاحبها حتى يقف بين يدي مولاه سبحانه وتعالى يوم القيامة ليقتص منه.
الجرائم في القوانين والشرائع العَلمانية من الممكن أن تسقط بالتقادم أما في الإسلام فلا تسقط جريمة بمضي المدة ويبقى مرتكبها مسؤولا عنها حتى تُرد الحقوق إلى أصحابها.
ذلكم الإسلام الذي لا يريده البعض، ويفضلون العَلمانية عليه، وذلكم عدله وإنصافه، وتلك العَلمانية وتهاونها في إنصاف أصحاب الحقوق من مغتصبيها.