مقالات
ريح يوسف
تاريخ النشر : الاثنين ١٦ يوليو ٢٠١٢
يومٌ بعد يوم، وغروبٌ خلف غروب، يقترب شيئاً فشيئاً، قادمٌ من رحم الأيام والشهور، تسبقه الأشواق والأنوار، حاملاً معه نسمات الرحمة، وأطايب المغفرة، وفضائل الجود، وليالٍ مُباركة مِلؤها حسناتٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، أولها رحمة وأوسطها مغفرة وآخرها عتقٌ من النار.
ذلك هو الضيف العزيز والشهر الكريم شهر المغفرة والرضوان، والعبادة والإحسان، شهر رمضان المبارك. أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليُمن والبركات.
رمـضــانُ في قلبي هماهم نشـوةٍ *** من قبل رؤية وجهك الوضـّاء
وعـلى فمــي طـعـمٌ أحِــس بأنـه *** من تلك الجـنّـة الخـضــراء
قــالــوا بــأنـك قــادمٌ فـــتــهــللـــت *** بـالبـشـر أوجـهـنـا وبالخيـلاء
نـهـفـوا إليك وفي القلوب وفي الـنـهـى *** شــوقٌ لمقدمـك وحسن رجــاء
وكما في كل عام، عندما يقترب هذا الشهر الفضيل من أوانه، وقبل بضعة أسابيع، يُخالجنا شعورٌ غريب يتملك إحساسنا ووجداننا. وسبحان الله انه ومن دون أسبابٍ أو مقدمات، يغمرنا الشعور بالبهجة والسرور وتملأ أرواحنا نفحاتٌ غامضة من الفرح والخشوع والرحمة والمحبة. وإذا نظرت حولك في الحواري والشوارع والأسواق وجدت الأجواء كأنها أجواء رمضان، ووجوه الناس كأنهم في رمضان. بل والأيام أصبحت كأنها أيام رمضان المباركة. تكاد أن تلمس وجهها. وتشمّ رائحتها. وتسمع أذانها. وتتوضأ بأنوارها.
سبحان الله كيف أن (الروح) عندما تعشق، وتصل في عشقها إلى درجة عالية من الصدق والمحبة والإيمان والصفاء والشفافية، فقد يوصلها (هذا العشق والإيمان) إلى الأشخاص أو الأماكن أو الأشياء التي تعشقها، قبل أن يصل إليها الجسد التي هي فيه. مهما بعُدت المسافة وطال الزمن. فالأرواح لا يحدها المكان ولا يقيدها الزمن. هكذا هي أرواح المؤمنين كما خلقها الله تعالى، حرة طليقة تسبح في فضاءٍ ملؤه النور والرحمة، هو نور الله ورحمته.
ولقد بحثت شخصياً في هذه الظاهرة. ظاهرة (شعورك بالحدث واتصالك به وإحساسك بوجوده) قبل أن يوجد هذا (الشخص أو الحدث) فعلاً على أرض الواقع. ولقد وجدت أن لهذا الشعور اتصالٌ وثيقٌ بـ (الروح)، فالروح هي (الأمر المطلق) الذي لا يحده زمنٌ أو مكانٌ في الوجود، وهي لذلك لها القدرة المطلقة على السفر والتنقل من مكان إلى مكان ومن زمنٍ إلى آخر، من دون قيدٍ او شرط، أو سببٍ أو منطق. وتأمل ذلك في الأحلام. فكم هي الأحلام غريبة وعجيبة. ذلك أنك في الحلم واقعٌ في قبضة الروح التي تذهب بك حيث تشاء وكيفما تشاء وإلى من تشاء.
ثم بحثت في (القرآن) لعلي أجد ما يُعزّز نظريتي هذه عن شعورنا بأجواء رمضان قبل أسابيع من تحقق أوانه فعلاً على أرض الواقع، وعلاقة الروح بذلك. وتذكرت سورة (يوسف) وكيف أن والده يعقوب قد وجد (ريح يوسف) قبل أن يأتي البشير ويُلقي بالقميص على وجهه فيرتدّ بصيرا.
قال تعالى: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". الآية 94 / يوسف.
فسبحان الله كيف وجد يعقوب ريح يوسف وهو على بُعد ألوف الأميال عنه؟
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في هذا الشرح: لما فصلت العير، أي خرجت من العمران وأصبح بينه وبين أبيه الصحراء، حملت الرياح رائحة يوسف عليه السلام إلى أبيه عليه السلام. "ويقول الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره لهذه الآية: (ولما فصلت العير) أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان بالشام (قال أبوهم) أي قال يعقوب لولده وإلى ولد ولده (إني لأجد ريح يوسف). رُوِي أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير. قال (مجاهد): أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام. وحُكي عن ابن عباس: من مسيرة ثمان ليال. وقال (الحسن): كان بينهما ثمانون فرسخا.
وقيل: هبّت ريحٌ فصفقت القميص، فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنة. فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فلذلك قال إني لأجد ريح يوسف.
(لولا ان تفندون): تسفهوني. وعن ابن عباس: تجهلوني. وقال الضحّاك: تهرمون فتقولون شيخٌ كبيرٌ قد خرف وذهب عقله. وقيل: تضعفوني. وقال أبو عبيدة: تضللوني. وأصل الفند: الفساد.".
نعم نشتاق إلى رمضان، لأنه شهر الصفاء والنقاء والمحبة والإخاء. ولأنه شهر التقوى والمرحمة.
وتستقبله أرواحنا قبل أجسامنا. لأن شوقنا إليه صادق ومحبتنا إليه كبيرة وثقتنا بالله أكبر.
قال (ابن الجوزي) في إحدى أدبياته: إلى متى أنت مريضٌ بالزكام؟ ومتى تستنشق ريح قميص يوسف عليه السلام؟ خرج قميص يوسف مع يهوذا من مصر إلى كنعان، فلا أهل القافلة علموا بريحه، ولا حامل القميص علم، وإنما قال صاحب الوجد: (إني لأجد ريح يوسف).
كان السلف يشتاقون إلى رمضان ويدعون الله أن يبلغهم إياه. فإذا بلغهم إياه قاموا بحقه خير قيام وتعبدوا لله فيه خير عبادة. ومن دعائهم قول يحي بن أبي كثير: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا.
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، واجعلنا ممّن يصومه إيماناً واحتسابا.