رسائل
بسبب الخوف من المجهول.. أمراض نفسية مزمنة تستوطن نفوس الشباب في العراق
تاريخ النشر : الجمعة ٢٠ يوليو ٢٠١٢
آخر احصائية أصدرتها وزارة الصحة في العراق تشير إلى ارتفاع في نسبة الأمراض النفسية لدى العراقيين بنسبة 15 بالمائة.
الإحصائية اعتمدت على تقارير المستشفيات وإحصاءات رقمية موثقة من مستشفيات وعيادات متخصصة بالطب النفسي.
المصادر الطبية نفسها افادت ان القلق والخوف من المجهول هما اهم العوامل التي تسببت بانتشار الأمراض النفسية مشيرة إلى ان التفجيرات وما سبقها من جثث مجهولة واشلاء القتلى الذين تعرضهم الفضائيات والخطف والسطو المسلح واجتياح القوات الأمريكية لمنازل المواطنين كلها عوامل تضافرت لتنشئ حالة من القلق المزمن والخوف مما تخبئه الأيام من مفاجآت.
آخر ضحايا الخوف فنانة عراقية معروفة اسمها سهى عبدالأمير.
العراقيون يعرفون هذه الفنانة وكانوا يرددون اغنياتها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات لكنهم ذهلوا حين شاهدوها قد فقدت عقلها نهائيا وتحولت إلى متسولة رثة تبسط يدها للمارة للحصول على قوت يومها.
اما عائلة سهى فتقول ان سبب جنونها كان نوبة خوف استبدت بها فأفقدتها صوابها.
يقول الباحث المتخصص عادل فرج ان هناك اربعة عوامل أساسية لتفشي الأمراض والانحرافات النفسية بين شباب العراق هي العامل الاجتماعي والعامل الاقتصادي والعامل الثقافي وعامل الهجرة.
ويؤكد فرج ارتفاع نسبة الأمراض النفسية عند اولئك الذين اضطروا إلى الهجرة عن مسقط رؤوسهم وهناك الملايين من العراقيين اجبروا على الهجرة وترك العراق إلى ارض الله الواسعة لكن الذي يلاحظ أيضا ان هذه النسبة ليست عالية في اولئك الذين استمروا في المحافظة على نمط الحياة الاجتماعية السابقة التي نشأوا عليها كما هو الحال في جماعات المهاجرين الذين يعيشون جنبا إلى جنب في جو وعلائق اجتماعية مماثلة لما تعودوه (كما فعل اخواننا المهاجرون من القرى والأرياف في شمال العراق إلى بغداد مثلا في بداية الستينيات من القرن الماضي وما تفعله غالبية المهاجرين من العراق إلى أمريكا وفي بعض الدول الأخرى وحسب اعداد المهاجرين إلى تلك الأقطار).
ويشير فرج إلى العامل الاجتماعي فيقول ان الدراسات التي قام بها بعض الباحثين على بعض الجماعات والأقوام البدائية في حضارتها وتركيبها الاجتماعي قد دلت على قلة وقوع الأمراض النفسية بين افرادها وفي العراق توصل الباحث الانثروبولوجي (شاكر مصطفى سليم) إلى انطباع مماثل في دراسته الدقيقة لسكان الجبايش في اهوار جنوبي العراق وقد تأيد هذا الانطباع من مصادر طبية مستقلة عملت في هذه المنطقة. ان هذه الدراسات وغيرها من الدراسات المماثلة تثبت إلى مدى بعيد ان نمط الحياة البسيطة والقائم على ارضاء الحاجات الأساسية في إطار جماعي هو اكثر ملاءمة للتوازن النفسي واقل تعريضا للإصابة بالأمراض النفسية وعلى عكس ذلك فان المجتمع الأكثر تعقيدا في تركيبه الاجتماعي ونمط حياته هو الأكثر ترسيبا للأمراض النفسية.
الأمم المتحدة من جانبها شخصت ظاهرة تفشي الأمراض النفسية ودقت ناقوس الخطر من تفاقمها.
ممثلة منظمة الصحة العالمية (OHW) بمكتب العراق قالت إن اثنين من كل خمسة مواطنين يعانيان مشكلات نفسية.
وأضافت نعيمة القصير في تقرير أصدرته عن الواقع الصحي في العراق أن ثمة حاجة شديدة إلى برامج دعم الصحة النفسية "وبدأنا كمنظمة في إقليم كردستان، ونسعى إلى تقديم الدعم في أنحاء العراق".
وأوضحت أن نتائج أولية لدراسة بمجال الصحة النفسية أعدها عراقيون - بدعم من منظمة الصحة- أظهرت أن اثنين من كل خمسة مواطنين لديهما أمراض أو مشاكل نفسية.
من جانبه أشار رئيس قسم الصحة النفسية بالمستشفى التعليمي في أربيل سيروان كامل إلى حدوث تغييرات كبيرة في المجتمع العراقي على صعيد الصحة النفسية بعد عام 2003، وتسجيل معدلات غير مسبوقة من الأمراض والمشاكل النفسية، مضيفا أن نسبة 2 إلى 5 التي أشارت إليها الدراسة المدعومة من الصحة العالمية "معقولة" معربا عن اعتقاده أن الشباب من كلا الجنسين هم الفئة التي تعاني أكثر من غيرها لقلة خبراتها الحياتية.
ويرجع الباحث الاجتماعي العراقي سعيد المؤمن تأزم نفسية الفرد العراقي إلى الإحباط الذي يمكث في النفوس بسبب الوضع الحالي.
مشيرا إلى انه برغم بعض الانجازات فان ذلك دون مستوى الطموح، بسبب الإحباط الذي يسببه الوضع الحالي، وفقد الأمل لدى البعض.
ويشير المؤمن إلى أن التقدم المتحقق على مستوى الأمن يقابله ترد مستمر في الخدمات التي لها صلة مباشرة بحياة الفرد.
ويخمن الطبيب لؤي حسين معدل أعمار العراقيين بمستوى الخامسة والستين، وهو معدل منخفض مقارنة بمعدل أعمار الأوروبيين الذي يصل إلى نحو ثمانين سنة.
ويقترح حسين، خطة طويلة الأمد تتيح في النهاية زيادة معدل أعمار العراقيين، عبر دعم الخدمات الصحية وتحسين المستوى المعيشي للفرد.
لكن وزارة الصحة العراقية أعلنت عام 2012 ان هناك انخفاضا في معدلات الوفيات بين الأطفال والنساء.
من جهته أكد رئيس الجمعية النفسية قاسم حسين صالح "ان خدمات الصحة النفسية التي تقدم في البلاد اقل بكثير من الحاجة اللازمة إليها"، منبها "ان العراقيين هم أكثر الشعوب تعرضا للضغوط النفسية عبر 32 عاما ومازالوا يعانون آثارها، اذ انه من الضروري الاهتمام بفتح العيادات النفسية وتثقيف المجتمع بهذا العلم واهميته لحياتهم اليومية"، عازيا السبب في الافتقار التام لوجود العيادات النفسية إلى عدة أسباب اهمها قلة الأطباء النفسيين وهجرة عدد كبير منهم إلى خارج البلاد اضافة إلى حصر فتح العيادات النفسية بالأطباء المختصين بالطب النفسي فقط ولا يمكن لخريجي الاختصاصات النفسية في الكليات الأخرى ان يمارسوا ذلك، مبينا "ان المريض الذي يراجع طبيبا نفسيا يوصف بأنه مجنون يجعله مترددا بمراجعة الأطباء وبالتالي ان هذه النظرة السلبية للمجتمع تسهم في عدم الاهتمام بالجانب الطبي النفسي".
الى ذلك أكد رئيس الهيئة الوطنية للصحة النفسية في وزارة الصحة الدكتور عامر عبدالله "ان الهيئة الوطنية تعمل على إدماج الرعاية النفسية بالرعاية الصحية من خلال إدخالها في المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية"، وأكد عبدالله "بدأنا بفتح العيادات والردهات النفسية في مراكز الرعاية الأولية والعديد من المستشفيات الحكومية التي تعطي العلاج الطبي في الحالات البسيطة كالقلق والاكتئاب وعلاج ما بعد الصدمة، حيث دربنا ما يقارب 1500 طبيب لذلك".
وبين "ان وزارة الصحة تعمل على توفير العلاج النفسي من خلال هذه الردهات والمستشفيات المتخصصة اضافة إلى توفير علاجات متطورة قد لا تتوافر في الدول المجاورة"، وتابع بالقول "قمنا بتوأمة الدراسة النفسية مع الكلية الملكية البريطانية لتدريب الطلبة وتطوير مهاراتهم. ومن خلال المسح الذي اجريناه بالتعاون مع أكاديميات عالمية ومنظمة الصحة العالمية عامي 2006 و2007 تبين ان نسبة المرضى النفسيين بالعراق تبلغ 16 بالمائة وهي نسبة موازية لما هو موجود في الدول الأخرى"، مؤكدا "ان حالات القلق والاكتئاب ترتفع لدى النساء بينما ترتفع حالات الفصام عند الرجال مقارنة بالنساء".
يوازي الوضع النفسي المنحرف لنسبة غير قليلة من العراقيين خطر آخر هو اللجوء إلى المخدرات والمسكرات للتغلب على حالات الاكتئاب واليأس تعززه البطالة التي تجعل جيلا كاملا في دوار وحيرة بسبب ارتفاع مستوى المعيشة وضعف الدخل وانعدام الأمل في الزواج وبناء أسرة .
تجدر الإشارة أخيرا إلى ان نسبة المصابين بالأمراض النفسية في العراق في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي لم تتجاوز 2 من كل ألف مواطن لترتفع في عقد التسعينيات إلى 5 بالمائة بسبب ظروف الحصار والفقر اللذين فتكا بالناس وافقداهم قدرتهم على التوازن لتبلغ ذروتها في سنوات ما بعد الاحتلال.