الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

من مفكرة سفير عربي في اليابان
الثقافة الإلكترونية وجنون «الإي»

تاريخ النشر : الأحد ٢٢ يوليو ٢٠١٢



انتشرت تكنولوجيا الانترنت في مختلف أرجاء قريتنا الكونية الصغيرة، ليتجاوز عدد مستخدميها، أكثر من ملياري شخص، أي 35% من سكان العالم. فيستخدم ثلاثة أرباع سكان الدول الأوروبية والولايات المتحدة الانترنت، وترتفع هذه النسبة في الدول الاسكندنافية إلى 90%. وتتقدم كوريا الجنوبية واليابان الدول الاسيوية، ويتجاوز عدد مستخدمي الانترنت في اليابان مائة مليون شخص، أي 78% من السكان، وتتوافر خدمة الانترنت في اكثر من 91% من المنازل اليابانية وفي 99 من الشركات. وتتقدم دولة الامارات منطقة الشرق الأوسط في انتشار خدمات الانترنت، كما تتراوح نسب استخدامها في الدول العربية بين 75% و10% من السكان. وقد طورت هذه التكنولوجية وسائل التواصل الاجتماعية الإلكترونية، فكثير من شباب العالم يتواصلون مع أقرانهم في مختلف أرجاء العالم بالإي ميل، والتويتر، والفيسبوك، وغيرها من وسائل التواصل الالكترونية. وقد كثر الحديث عما حققته تكنولوجيا الانترنت في عالم العولمة الجديد اقتصاديا وتجاريا واجتماعيا وتكنولوجيا وثقافيا، ولكنها ترافقت بتزايد لافت للنظر للساعات التي يقضيها الفرد في عملية التواصل الإلكتروني لتتجاوز أسبوعيا الثماني والثلاثين ساعة المسموح بها طبيا، ويبقى السؤال المحير: هل تغير الثقافة الإلكترونية عقولنا؟ وهل تمتد هذه التغيرات لوظائف المخ وبنيته؟ وما شدة هذه التغيرات مع استخدام تكنولوجيات التواصل الاجتماعي؟ وهل ممكن أن يتعرض الإنسان للإدمان بكثرة الاستخدام؟
ناقشت مجلة النيوزويك الأمريكية في عددها الصادر يوم السادس عشر من يوليو الجاري (2012) جنون الإنترنت وتحت عنوان «هل الانقضاض على الانترنت يسبب الجنون؟» عرضت المجلة أبحاثا كثيرة من جامعات مرموقة، كجامعتي ستانفورد وأكسفورد، تؤكد مخاطر استخدام الوسائل التكنولوجية للتواصل الاجتماعي في الانترنت من خلال التويتر، والبريد الالكتروني، والمراسلات التلفونية، على العقل البشري، وخاصة مع ما ترافقه من ظاهرة الإدمان، التي تترافق بتغيرات في المخ مشابهة لتغيرات الادمان على المخدرات.
وخير من ناقش هذا الموضوع هو الكاتب الأمريكي، نيكولاس كار في كتابه، الضحل، ويبدأ بتعليق يقول فيه: «في عام 1964، حينما غزت فرقة الغناء البريطانية، البيتلز، إذاعات الولايات المتحدة، صدر كتاب مارشال ماكلوهان، الإعلام امتداد للإنسان، ليعلن فيه أن الاعلام الكهربائي للقرن العشرين يمزق طغيان النصوص الكتابية في أذهاننا. فبعد قرون من العزلة في غرفة مغلقة لقراءة صفحات مطبوعة، بدأنا نندمج في عولمة قرية قبلية، قربتنا لمرحلة التنبيه التكنولوجي لوعينا، لتنتشر عملية الإبداع المعرفي في المجتمع البشري بأكمله. ولم يتنبأ، حتى ماكلوهن، بالمأدبة التي سيضعها الانترنت أمامنا، أكلة شهية تلو الأخرى، وكل واحدة منها أكثر لذة من سابقتها، وبدون لحظة انقطاع لأخذ النفس. وأصبحت هذه الوليمة متحركة، بانكماشها لحجم الاي فون والبلاك بيري، وبوجودها في أي وقت ومكان، في البيت والسيارة والمدرسة والعمل وحقيبة الجيب. فقد قلبت شاشة الكومبيوتر شكوكنا في سخائه، ليصبح خادما فظا، يعمينا من ملاحظة أنه السيد أيضا».
ويصف نيكولاس كار تأثير الانترنت في عقله، فيقول: «لا أستطيع أن أحس بعقلي، فخلال السنوات القليلة الماضية، عندي إحساس بأن هناك شيئا ما يحدث بعقلي، يغير خريطة شبكاته العصبية، ويعيد برمجة ذاكرتي. فلم ينهر ذهني، ولكنه تغير، فلم أعد أفكر بالطريقة التي كنت أفكر بها، كما لم أعد أحس بالقوة حينما أقرأ. فكنت سابقا أسترخي حينما أنغمس في قراءة كتاب أو مقال طويل، ليتعلق ذهني بحبكة درامية أو بحوار فكري. ونادرا ما أعيش تلك اللحظات مع ذهني الآن، بل ينجرف تركيزي بعد صفحة أو صفحتين، وأتملل لأبحث عن شيء آخر لأقوم به، وأشعر دائما بالحاجة إلى سحب عقلي المشاكس للنص، وأصبحت القراءة العميقة نضالا مرهقا. فقد لاحظت في عام 2007، أن الانترنت قد أثر بشكل أقوى وواسع في شخصيتي، بل تغيرت الكثير من عاداتي وتصرفاتي، فزاد اعتمادي على صفحاته وخدماته، بل تغيرت الطريقة التي كان مخي يعمل بها، وبدأت اشعر بعدم قدرتي على التركيز في شيء ما أكثر من دقيقتين. وتصورت أنها تغيرات متوسط العمر، ولم تكن المشكلة فقط الانسياق العقلي، بل أحسست بأن عقلي متعطش، ويحتاج إلى زيادة من الانترنت، وكلما رويت ظمأه زاد عطشه. فحولني الانترنت لآلة لمعالجة المعلومات، ففقدت عقلي القديم».
ولنستمع عزيزي القارئ لعدد من المختصين عن خبراتهم مع الانترنت، فيقول بروس فريدمان، الباحث الأمريكي في العلوم الطبية: «لقد فقدت معظم قدراتي على القراءة واستيعاب مقال طويل بالتصفح على الانترنت». وعلق الطبيب كراب، المتخصص في علم الأمراض بجامعة ميتشيجن الأمريكية: «لقد أصبح تفكيري متناثرا، بالقفز بسرعة من نص لآخر على صفحات الانترنت الكثيرة، ولا أستطيع الآن أن أقرأ كتاب، الحرب والسلم، فقد فقدت القدرة على ذلك، حتى صفحة بثلاث فقرات، أصبح من الصعب علي استيعابها، فأتصفحها بسرعة». ويتذكر فيليب ديفس، الباحث بجامعة كورنيل ألأمريكية، حينما كان يعلم أحد طالباته في التسعينيات استخدام الانترنت، فقال: «استغربت حينما توقفت الطالبة لتقرأ النص بأكمله على الصفحة الالكترونية، فصرخت، من المفروض الا تقرئي صفحة الانترنت، بل انقري على الكلمات البارزة». وينتقد ديفس نفسه اليوم: «من المفروض أن أقرأ كثيرا ولكني لا استطيع، فأنا أتزلج بسرعة على السطور، فليس لدي الصبر الكافي لحوار عميق وطويل، مع انني اتهم البعض بتبسيط مشاكل العالم».
فهولاء الثلاثة، كراب وفريدمان وديفس، رجال متعلمون، ومهتمون بالكتابة، يلاحظون تأثر قدراتهم على القراءة والتركيز بسبب الانترنت، ولكنه في الوقت نفسه يوفر لهم سرعة الحصول على المعلومة، وآلية بحث هائلة القدرات، وسهولة مشاركة أفكارهم وحواراتهم مع الآخرين، على حساب فقد قدرات جلوسهم بهدوء، وقراءة كتاب أو مجلة. فيقول فريدمان: «لم أكن أكثر إبداعا كما أنا الآن، بقدرتي على تصفح أطنان من المعلومات». ويعتقد كريب أن: «القراءة السريعة للكثير من السطور على صفحات الانترنت، أكثر كفاءة في توسيع الذهن، من قراءة 250 صفحة في كتاب، ولم نتعرف سمو آلية التفكير الالكترونية، لأننا نقيسها بعملية تفكير قديمة». ويقول ديفس: «فربما غيرني الانترنت لقارئ قليل الصبر، ولكنه حولني لقارئ أذكى، فبزيادة التواصل مع الكتابات والأشخاص، يعني زيادة التأثير الخارجي في تفكيري وكتاباتي». وتعلق البروفيسورة كاثرين هيلس، الأستاذة بجامعة ديوك الأمريكية، على طلبتها بالقول: «لا أستطيع اليوم أن أدفع بطلبتي لقراءة كتاب بأكمله». وهي تتحدث عن طلبة الآداب. ويعلق الكاتب، نيكولوس كار، على الطريقة الجديدة للقراءة في الانترنت، فيقول: «لقد فقد متصفحو الانترنت الصبر على القراءة، فمع أن سرعة البحث والتنقل بين صفحة وأخرى مهمة، ولكن المزعج هو أن التزلج على الصفحات أصبحت الطريقة الجديدة للقراءة، فانعدمت قدرتنا على قراءة الكتب المطبوعة، لتصورنا بأن لا حاجة لنا بها. فتحولنا من غارسي المعلومة الشخصية إلى صيادي ومجمعي معطيات الغابة الالكترونية».
ولنا لقاء.

* سفير مملكة البحرين في اليابان