دراسات
الاقتصاد العربي والأزمة الأوروبية
تاريخ النشر : الأحد ٢٢ يوليو ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
تتأثر الاقتصادات العربية مباشرة بالأزمة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي الذي يعد شريكها التجاري الأول، حيث إن ركود الاقتصاد الأوروبي بسبب هذه الأزمة يجعله أقل قدرة على استيعاب المنتجات العربية والاستثمار في العالم العربي وتوفير فرص عمل للعمالة العربية المهاجرة إلى بلدان أوروبا وأقل قدرة على إيفاد سائحين للبلاد العربية المعتمدة أساسًا على السياحة وأقل قدرة أيضًا على تقديم مساعدات مالية للدول العربية غير النفطية التي تحتاج إلى هذه المساعدات.
وبينما طغت هذه الأزمة على جدول أعمال قمة الدول الثماني الكبار التي جرت في منتجع كامب ديفيد في ولاية مريلاند الأمريكية في 18، 19 مايو الماضي، فإنها كانت السبب الرئيسي في قرار الناتو في قمة شيكاغو 21، 22 مايو سحب قواته من أفغانستان في 2014، ودول الربيع العربي والأردن والمغرب التي كانت تتطلع إلى وفاء مجموعة الثماني بعهودها في تقديم دعم ووعود بمساعدات تبلغ 40 مليار دولار تبخرت أحلامها مع هذه الأزمة؛ حيث عدلت المجموعة عن توجيه دعوة حضور لوزراء خارجية مصر وتونس والأردن والمغرب، وبات التطرق إلى أوعية مالية فعلية غير ممكن، وواقع الحال يبرهن أن الوعود لم تترجم إلى أفعال، ويعلن الثماني الكبار أنهم لم يكونوا يقصدون دعمًا مباشرًا، ولكن مجرد إجراءات فنية وتسهيلات مثل تقديم قروض من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وهو بنك تنمية تسهم فيه مصر ولكنها لم تحصل منه على أموال، وتسعى الدول الثماني إلى تشجيع الدول الأعضاء على إدخال تعديلات في لائحة البنك لتسهيل القروض لمصر وتونس والأردن والمغرب، وقد تضمنت خطة مساعدة الدول الثماني الكبار لهذه الدول المعروفة باسم خطة «دوفيل» ثلاثة مسارات: الأول: مالي لإيجاد آلية تعرف دول المنطقة سبل الحصول على ضمانات قروض طويلة الاجل سواء من خلال المؤسسات أو علاقات ثنائية، الثاني: هو الحكم الجيد وتبني معايير منظمة الأمن والتعاون الاقتصادي الخاصة بالشفافية وحقوق الإنسان وحرية تداول المعلومات، الثالث: تجاري يتعلق بإزالة العوائق التجارية وتنشيط القواعد الجمركية، وأقصى ما قدمته دول الثماني هو إنشاء صندوق ائتمان من أجل تمويل مشروعات بناء القدرات والمساعدات الفنية التي تمولها بالفعل اليابان ودول الاتحاد الأوروبي لبلدان منها مصر وتونس.
إن حصيلة «دوفيل» إذًا هي كيفية الاستفادة بما هو موجود، ولم تتضمن رئاسة الولايات المتحدة لمجموعة الثماني إضافة جديدة، وأعلنت رؤية تقوم على تحقيق التكامل بين الرؤى الاقتصادية والحكم الجيد، والسعي في ضوء شراكة «دوفيل» إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير فرص عمل والمساعدة على إنجاز قدر من التكامل الاقتصادي من خلال دعم التجارة.
إن المشكلات المالية التي تعانيها أوروبا كانت هي الموضوع المسيطر على قمة الثماني، وكان الاختلاف في التعاطي مع هذه المشاكل وتداعياتها سببًا في وصف هذه القمة بأنها قمة الصفر، وفقدان الثقة بها كقيادة للعالم تخرجه من أزماته، بل إن قضايا على درجة عالية من الأهمية كانت مدرجة على جدول أعمال هذه القمة كقضية الأمن الغذائي وتخصيص مبلغ 22 مليار دولار لإنعاش الزراعة في دول إفريقيا، وقضية المحافظة على البيئة، لم تتطرق إليها أصلاً المناقشات، وباتت الفقرات تنقل بعينها من مؤتمر إلى مؤتمر في صياغة يغلب عليها الطابع الروتيني الحكومي، مثل ان الأمر نوقش وأكدت الدول التزاماتها وتعهداتها، وبسبب هذه الأزمة المالية العميقة كانت الدول الأعضاء في هذه المجموعة أكثر ميلاً للحلول الأقل كُلفة في قضايا ساخنة مثل القضية السورية والقضية الإيرانية؛ ففي الشأن السوري كان التوافق على أن الحل السلمي والانتقال السياسي هما الأفضل، وضرورة إيجاد حل لوقف العنف وانتقال السلطة على طريقة اليمن، مع الإعراب عن القلق بشأن العنف، وطبقًا للرئيس الأمريكي «أوباما» «نحن ندعم خطة مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية كوفي عنان، وأن خطة عنان يجب أن تطبق بشكل كامل، وأن العملية السياسية يجب أن تمضي قدمًا بسرعة أكبر من أجل حل المسألة» وتمسك قادة مجموعة الثماني في الشأن الإيراني بمواصلة سياسة الحزم في العقوبات المفروضة على إيران واعتماد الدبلوماسية لحملها على إيقاف برنامجها النووي مع مطالبتها بكشف المزيد عن طموحاتها، وأعربوا عن قلقهم العميق من احتمال استخدام إيران برنامجها النووي لامتلاك أسلحة نووية، وأعرب «أوباما» عن أمله في حل القضية الإيرانية بطريقة دبلوماسية تحترم سيادة إيران وحقوقها في المجتمع الدولي لكن مع الإقرار أيضًا بمسؤولياتها، بينما استمر التلويح كأحد أساليب الضغط خلال مرحلة التفاوض باحتمال ضربة عسكرية توجهها إسرائيل؛ حيث لن تسمح تل أبيب لإيران بالحصول على سلاح نووي.
وارتباطًا بالأزمة الاقتصادية الأوروبية وتداعياتها فإن اجتماع كامب ديفيد أظهر قلق مجموعة الثماني من ارتفاع محتمل لأسعار النفط على خلفية تشديد العقوبات على إيران بإجراء حظر على صادراتها النفطية، ومن ثم حجب الإنتاج الإيراني عن الأسواق في وقت يتأخر فيه تعويض نقص المعروض بإمدادات كافية من دول أخرى على رأسها السعودية، ولهذا كان إعلان وكالة الطاقة الدولية اجتماعا مهما لها في لندن في 29 مايو الماضي للبحث في وضع الأسواق النفطية، وممارسة للضغط على الأسواق النفطية حتى لا ترتفع الأسعار أعلنت الولايات المتحدة انتقالها من مستورد صاف للغاز إلى مصدر له عام 2016 بفضل تطوير استخراج الغاز الحجري الذي يمثل حاليٌّا ثلث إنتاج الغاز الأمريكي، بما يعني ثورة في سياسة الطاقة الأمريكية جعلت الولايات المتحدة منتجًا عالميٌّا للغاز يفوق كبار المنتجين اعتبارًا من 2010، وانعكس هذا الوضع في تراجع أسعار الغاز داخل الولايات المتحدة، كما تم اعلان زيادة الإنتاج النفطي للولايات المتحدة بمقدار 1,5 مليون برميل يوميا عام 2020 في الوقت نفسه الذي يجرى فيه ترشيد الاستهلاك، وأن هذه الزيادات المتوقعة تتواكب مع زيادة الإنتاج في كل من كندا والبرازيل، وكل هذا يعني تخفيض الاعتماد على النفط العربي سلعة التصدير الرئيسية والمصدر الرئيسي لإيرادات الموازنات العامة في كثير من البلدان العربية.
غير أن الأزمة الاقتصادية الأوروبية لا تهدد فقط الاقتصادات العربية على النحو الذي أشرنا إليه، ولكنها تهدد أيضًا بانفراط عقد منطقة اليورو بسبب الاختلاف على السياسات الواجب اتباعها للخروج من هذه الأزمة، وخاصة الاختلاف بين قطبي هذه المنطقة ألمانيا وفرنسا، ومن المعلوم أن مشكلة العملة الأوروبية الموحدة كانت أحد الأسباب وراء إبطاء الوحدة النقدية والعملة الخليجية الموحدة، يأتي هذا الخلاف في وقت تسعى فيه روسيا مجددًا إلى منافسة الغرب استراتيجيا، ويفاقم الشلل السياسي في الولايات المتحدة بسبب الانتخابات الرئاسية ويترنح الاقتصاد الياباني، ومحور هذا الخلاف هو هل يتم الاستمرار في اتباع سياسات التقشف بما يخفض الإنفاق كما ترى ميركل وهو الأمر الذي بات تهدد به اليونان إما باتباع هذه السياسات وإما الخروج من منطقة اليورو، أم يتم اتباع سياسات تحفز النمو كما يرى الرئيس الفرنسي الجديد «فرانسوا هولاند» والرئيس الأمريكي «أوباما»؟
ولأن الأزمة في اليونان امتدت بمظاهرها إلى دول أخرى وخاصة إيطاليا وأسبانيا، كما حدت الأزمة الأوروبية من فرص الإنعاش الاقتصادي الأمريكي قبل الانتخابات بما يقلص فرص «أوباما» في الفوز، اتجهت الدول الثماني إلى التعبير عن الرغبة في بقاء اليونان في منطقة اليورو، بما يعني تخفيف ألمانيا من شروطها، وبما يعني في الوقت عينه حصار تيار اليسار المتصاعد بعد فوزه في فرنسا من أن يحرز انتصارًا جديدًا في اليونان؛ حيث تضاعف الأزمة من فرص نشوب أزمة اجتماعية، ويؤدي طرد اليونان على خلفية التهديد الألماني إلى انعكاسات على الاقتصاد العالمي وخاصة الأوروبي والأمريكي، وهي انعكاسات تطول النظام الاقتصادي نفسه، واستمرار الأزمة الراهنة في القارة الأوروبية يؤدي إلى يسار متطرف أو يمين متطرف، ومن ثم عدم الاستقرار الأوروبي، وهي الحالة التي أودت بـ 9 حكومات في ثلاث سنوات، ويعني هذا الوضع شللا سياسيا وزيادة في التطرف والتعصب القوميين.
إن الأزمة الاقتصادية الأوروبية إذًا كانت هي القضية المسيطرة على أعمال مجموعة الثماني، وكان إيجاد مخرج ممكن لليونان من أزمتها الاقتصادية الخانقة في مقدمة جدول أعمال هذه القمة، غير أن هذا المخرج بدا متعذرًا، وترك لليونان اتخاذ القرار المناسب احترامًا لالتزاماتها، بينما أيدت مجموعة الثماني رغبتها في بقاء اليونان ضمن منطقة اليورو حيث يشعر المستثمرون بأن تراجع اليونان عن تنفيذ ما اتفق عليه في شأن خفض الإنفاق الحكومي يؤدي إلى خروج اليونان من اليورو، وفي مثل هذه الحالة يحدث موقف مماثل في إيطاليا وأسبانيا وقد يحدث اضطراب كبير في منطقة اليورو ومن ثم أزمة مالية عالمية تنافس في شدتها أزمة 2008، يأتي هذا في وقت لا ترحب فيه الولايات المتحدة بعملة تنافس عملتها، ولا تريد تحمل أعباء دعم منطقة اليورو، وبدا أن إحداث توازن بين سياسات الانكماش وسياسات حفز النمو أمرًا يكاد أن يكون مستحيلاً.
إن قمة الثماني إذًا في تناولها لأهم الموضوعات المطروحة عليها قد أخفقت وأصبحت الكرة في الملعب الأوروبي نفسه.
ومن هنا، كان اعلان مؤتمر استثنائي للاتحاد الأوروبي نهاية مايو الماضي، مؤتمر يتناول قضايا النمو والتوظيف ويمهد للقمة الأوروبية المقررة في 27، 28 يونيو في بروكسل لبحث سبل تنشيط النمو الاقتصادي في دول الاتحاد الـ 27، وصرح رئيس المفوضية الأوروبية «جوزيه مانويل باروسو» في 16 مايو بأن المجلس الأوروبي في شهر يونيو سيركز على مبادرة النمو، وقبل اجتماع القمة الأوروبية يجتمع زعماء دول أوروبا الكبيرة فرنسا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا في روما يوم 22 يونيو للتباحث في شأن أزمة منطقة اليورو، ولكن قبل هذا الاجتماع ستكون الانتخابات العامة اليونانية التي قد تسفر عن حكومة تلغي برنامج المساعدة الدولي وتخرج اليونان من منطقة اليورو، وتتحسب بريطانيا للموقف الجديد المترتب عليه إقبال الكثير من اليونانيين على الهجرة إلى دول أكثر استقرارًا، وذلك بفرض قيود طارئة على الهجرة لمواجهة أي زيادة في المهاجرين من اليونان ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى لأسباب اقتصادية إذا انهار اليورو، رغم أنه يحق لأي مواطن في السوق الواحدة العمل في دولة عضو أخرى، وشددت المفوضية الأوروبية على دول الاتحاد الأوروبي من خلال توصياتها الاقتصادية التي كانت حاسمة في حق أسبانيا وفرنسا وإيطاليا، كما دعت إلى تقوية تكامل منطقة اليورو من خلال اتحاد مصرفي، والسماح لآلية الاستقرار الأوروبي بالمشاركة المباشرة في إعادة تمويل المصارفإن ما يحدث في القارة الأوروبية إذًا كان وراء التوقعات المتحفظة للنمو الاقتصادي التي أعلنها صندوق النقد الدولي في ابريل الماضي لنمو الاقتصادات العربية؛ حيث إن المعدلات المنخفضة لهذا النمو كانت نتيجة الأزمة لدى شركاء رئيسيين لهذه الاقتصادات إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المقلقة في دول الربيع العربي، وتشتد المنافسة بين الاقتصادات العربية المصدرة للسوق الأوروبية على الأسعار الأقل مع مصدرين آخرين وخاصة في قطاع الملابس الجاهزة والسياحة لدول الشمال الافريقي أو قطاع الألومونيوم والبتروكيماويات في دول الخليج العربي، كما أصبح يتعين على البلدان العربية المتلقية للمساعدات والاستثمارات والسياحة الأوروبية ألا تُعول كثيرًا وخاصة في الأجل القصير على القارة الأوروبية وعليها أن تبحث عن مصادر بديلة أو تزيد اعتمادها على نفسها وتعاونها فيما بينها.