الجريدة اليومية الأولى في البحرين

العدد : ١٢٥٤٢ - الأربعاء ٢٥ يوليو ٢٠١٢ م، الموافق ٦ رمضان ١٤٣٣ هـ
(العودة للعدد الأخير)

اللحظة الفارقة في مصير اليورو





من أجل تسوية أزمة ديونها، ينبغي على أوروبا الاستمرار في خفض الانفاق الاجتماعي واصلاح قوانين العمل والانخراط في برنامج اقتصادي تحفيزي واسع، ولكن يبقى السؤال ما هو مصير اليورو، وهل تنخفض العملة الأوروبية لتعادل قيمة الدولار؟

وبعيداً عن الصخب الاعلامي الدائر حالياً في أوروبا والذي يركز بمجمله على نتائج الانتخابات اليونانية ونتائج القمة الأخيرة للقادة الأوروبيين، يبقى هناك تطور لافت يجري في الخفاء في ظل أزمة الديون التي تشهدها القارة العجوز، وهو ما اعلنت عنه شركة إيرباص الأوروبية لصناعة الطائرات - أكبر منافس لشركة بوينغ الأميركية - بإنشاء أول مصنع لها في الولايات المتحدة.

هذه الخطوة هي أكبر دليل على الأزمة التي تعصف بأوروبا. فلم تجد إيرباص أمامها لكي تحافظ على قدرتها التنافسية سوى أن تنتقل من أوروبا القديمة. وتماماً كما فعلت شركتا بي إم دبليو (BMW) ومرسيدس بنز الألمانيتان، تحولت إيرباص إلى عمق الجنوب الأميركي بحثاً عما يفتقده الجنوب الأوروبي والمتمثل في عمالة منتجة وجادة ومنخفضة التكاليف تمكنها من التنافس عالمياً إلى جانب دعم عملة تنافسية عالمية أيضاً.

هذا بالتحديد هو ما تحتاجه أوروبا التي تشهد معدلات بطالة غير مسبوقة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وهو أيضاً ما تفتقده بشدة. والحل لهذه العجوزات هو تحقيق النمو، فيما أفضل وسيلة لتحفيز النمو يأتي عبر باب الدعم النقدي. تلك هي باختصار معضلة أوروبا.

بامكان اليورو في حال انخفاضه ليعادل الدولار أن يعيد أوروبا الى واجهة المنافسة وانهاء أزمة ديونها وحماية عملتها. الامر يعود بنا الى عقد من الزمن، فقد نجح الأمر سابقاً ويبدو اننا اليوم نسلك نفس الاتجاه، من الذروة التي بلغها في عام ٢٠٠٨ حينما كان يعادل ١.٦٠$ الى أن بلغ حوالي ١.٢٢$ . وبعد عامين من خفض النفقات والاجراءات غير المكتملة، يبدو ان الحل الوحيد امام اليورو هو خفض قيمته.

لقد أصبح يقيناً ان هذا الحل المتمثل في خفض قيمة اليورو سيكون أقل كلفة من تفكك العملة الأوروبية الموحدة برمتها، الامر الذي تحدثت عنه الصحافة الأوروبية بقولها «أنه سيسرع بالنهاية المروعة» على اعتبار ان اوروبا ستغرق في ركود اقتصادي عميق والحكومات ستجد نفسها مجبرة على اقتراض المليارات وستكون امام خيارين أحلاهما مر: فإما زيادة الضرائب بشكل كبير، أو فرض اعباء مالية تضخمية على المواطنين.

ووسط كل هذه الأجواء، يبقى البنك المركزي الأوروبي (ECB) بقيادة (ماريو دراغي) الوحيد الذي لديه القدرة على طباعة أوراق اليورو النقدية لشراء اصول ديون حكومات كاسبانيا وايطاليا دون حدود، ما قد يؤدي الى انهيار آخر للسوق. وبالتالي فإنه عندما يحدث ذلك - وأتوقع حدوثه - سيكون فرصة لا تتكرر الا مرة واحدة كل ١٠ سنوات على الأقل لشراء سندات اوروبية رخيصة بالفعل.

ان فكرة طباعة أوراق نقدية من اليورو تقلق السلطات الأوروبية وعلى رأسها البنك المركزي الأوروبي الذي ترتكز سياسته القانونية الرئيسية على توفير الاستقرار للأسعار، وذلك على عكس الفيدرالي الأمريكي الذي لديه مهمة مزدوجة للحفاظ على معدلات تضخم وبطالة منخفضة.

وفي المقابل، يحث القادة في الاتحاد الاوروبي على خفض الانفاق ورفع الضرائب كشروط للمساعدة في انقاذ اليونان والبرتغال وايرلندا بموازاة اصلاحات للقوانين التي تحد من نمو الوظائف حتى تحت أفضل الظروف. إلا أن البعض يرى الأزمة من منظور الأزمة الاقتصادية التي حلت باليابان وحالة الركود التي مرت بها خلال العقدين الماضيين. فأوروبا تبدو كالمريض الذي يعاني من مرضي الالتهاب الرئوي والسكري في ذات الوقت.. فاتباع نظام غذائي صحي ورياضي للتعامل مع مرض السكري يكون دون جدوى إذا كان الالتهاب الرئوي متوغلاً في جسد المريض!

ان ما تحتاجه اوروبا اليوم هو سياسة أكثر تحفيزا من قبل البنك المركزي الأوروبي تؤدي الى اسعار فائدة منخفضة على المدى الطويل للدول الأوروبية الأكثر مديونية وعلى الأخص إسبانيا وايطاليا، بالإضافة الى خفض العملة الموحدة الى مستويات معادلة للدولار.

يأتي هذا في وقت تؤكد المستشارة الالمانية القوية «انجيلا ميريكل» أن المطلوب اولا هو إجراء تغييرات هيكلية ومالية لأن الفائض المالي والائتماني كان هو السبب الحقيقي وراء هذه الأزمة. وببساطة فإن طباعة المزيد من أوراق النقد لن يمنح اليونان واسبانيا وايطاليا سوى فرصة مؤقتة لحل مشاكلهما، في حين أن ما يريده القادة الاوروبيون هو الاستفادة من الازمة الحالية لفرض اصلاحات حقيقية وجوهرية لن يكون فرضها سهلا في ظل ظروف عادية.

لقد حذر بنك التسويات الدولية - وهو بمثابة البنك المركزي لمحافظي البنوك المركزية حول العالم - حذر الشهر الماضي في تقريره السنوي من أن البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية الكبرى الأخرى حول العالم وعلى رأسها الفيدرالي الامريكي والبنك المركزي الياباني وبنك انجلترا المركزي قد استنفدت امكانياتها لتحفيز اقتصاداتها، وان هذه البنوك تواجه اثارا جانبية مؤثرة لتضخم محتمل وانتشار فقاقيع اصول خاصة في الاقتصادات الناشئة، في ظل وجود أسعار فائدة تصل إلى أو تقترب من الصفر إلى جانب توسع ميزانياتها أيضاً.

ولكننا نعتقد أن سياسة التقشف لن تنجح، حيث سيتطلب الامر ٣٠ عاما اضافيا من الانكماش في الدين وفي مؤشر البطالة قبل ان تستطيع اليونان اللحاق بألمانيا، ولتقليص هذه الفجوة على المانيا ان ترفع معدل التضخم لديها سريعا اعلى من الهامش. ورغم التوقعات بأن ترفض المانيا ارتفاع التضخم، إلا أن البديل سيكون أسوأ مع انهيار منطقة اليورو.

هذه المعضلة هي ثمن وجود عملة موحدة الذي على الجميع أن يدفع ثمنه اليوم. فخفض قيمة العملة يعوض فقدان الاقتصادات ذات التضخم المرتفع والانتاجية المتدنية لتنافسيتها، كما أن تثبيت اسعار الصرف في منطقة اليورو كان من المفترض ان يؤدي الى مزيد من الانضباط، في حين أن شروط انقاذ اليونان والبرتغال وايرلندا لن تخرج عن فرض خطة واسعة من التقشف والتعامل مع فترة عميقة من الركود.

مرة أخرى.. تبقى اللحظة الفارقة في مصير اليورو.. هل تنخفض العملة الأوروبية؟



} الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك الكويت الوطني

عضو مجلس إدارة معهد التمويل الدولي ومجموعة بريتون وودز العالمية في واشنطن









.

نسخة للطباعة

الأعداد السابقة