مقالات
رحلة إلى روح فيتنام.. وروح العالم (2)
داخل أنفاق المقاومة والصمود
تاريخ النشر : الأربعاء ٢٥ يوليو ٢٠١٢
كما ذكرت في المقال السابق، من بين الاماكن الكثيرة التي زرناها في فيتنام، وجدت ان ثمة محطات اربعا لابد من التوقف عندها ولو باختصار، إذ تشكل معا تجسيدا لرحلة الشعب الفيتنامي الطويلة والشاقة في مقاومة الهمجية الامريكية وفي البناء والحياة بعد ذلك.
المحطة الاولى، هي أنفاق المقاومة في كو شي. والثانية، هي متحف الحرب. والثالثة، هي قصر إعادة التوحيد، والرابعة هي المحمية الطبيعية في كان جيو.
***
أنفاق كوشي
بعد رحلة استغرقت نحو ساعة ونصف الساعة بالباص، وصلنا الى مدينة كوشي الواقعة على بعد نحو 75 كيلومترا جنوبي مدينة هو شي منه.
كوشي هذه ليست مدينة عادية. هي تجسيد لواحدة من اعظم ملاحم الشعب الفيتنامي البطولية في الصمود وفي مقاومة الهمجية الامريكية.
المدينة والمنطقة كلها، منطقة ريفية، كل سكانها تقريبا من المزارعين، وحيث تمتد المزارع والمساحات الخضراء على امتداد البصر.
اهم معلم من معالم المدينة هي ما يطلقون عليه «انفاق كوشي».. المقصود بذلك شبكة الانفاق التي استخدمتها المقاومة اثناء الحرب مع الامريكان. وهي مازالت موجودة كما هي، اذ قررت السلطات الفيتنامية الحفاظ عليها كاحد المعالم التاريخية المشهودة.
هذه الانفاق لها قصة طويلة.
اثناء ستينيات القرن الماضي، فوجئت القوات الامريكية بظاهرة غريبة. فوجئت بأن المقاتلين الشيوعيين، مقاتلي جبهة التحرير، الفيت كونج، كانوا يختفون فجأة في وسط الغابات، ولا يوجد أي اثر لهم على الاطلاق بعد ذلك، وكأنهم اختفوا من الوجود تماما.
عجزت القوات الامريكية عجزا مطلقا عن ان تكشف سر هذا الاختفاء الغريب. واحتاجوا الى فترة طويلة جدا.. الى سنوات في الحقيقة، كي يكتشفوا هذا السر.
السر هو ان المقاتلين كانوا يختبئون داخل شبكة معقدة من الانفاق المحفورة تحت الارض في داخل الغابات.
شبكة الانفاق هذه تمتد لنحو 200 كيلومتر تحت الارض. وهي مقسمة الى ثلاثة مستويات، بحيث تضم ملاجئ للايواء والاعاشة، وللتخطيط لعمليات المقاومة واعداد الاسلحة. وكانت تستخدم كطرق امداد واتصالات ، وكمستشفيات ومستودعات للأسلحة.. وهكذا.
كان الآلاف من مقاتلي الفيت كونج، وايضا من القرويين من المنطقة، يعيشون داخل هذه الانفاق احيانا لمدد طويلة قد تمتد لشهر او اكثر دون ان يخرجوا الى سطح الارض.
في وقت من الاوقات كانت هذه الانفاق تأوي نحو 16 الفا من المقاتلين ومن القرويين في المنطقة.
الامريكان فشلوا في اكتشاف وجود هذه الانفاق لسنين بسبب القدرة المذهلة على اخفاء وجودها، وبسبب شبكة غريبة من الافخاخ القاتلة داخل الغابات لاصطياد أي امريكي يوجد في المنطقة.
حتى حين اكتشف الامريكيون وجود هذه الانفاق، فانهم فشلوا فشلا ذريعا في تدميرها او اقتحامها طبعا رغم كل اساليب الابادة والوحشية العسكرية التي اتبعوها.
في عام 1966، دك الامريكيون المنطقة كلها بالقنابل التي القتها مقاتلات البي 52، لكنهم فشلوا في اختراقها.
ابادوا الغابات ابادة كاملة باستخدام المواد السامة وقتلوا كل اشجارها، وفشلوا ايضا.
ثم قاموا بتدريب وحدات خاصة على اختراق الانفاق اطلقوا عليها «فئران الانفاق »لكنهم ايضا فشلوا في اختراقها، وظلت هذه الانفاق حتى نهاية الحرب عصية على الامريكيين. واستخدمتها المقاومة لمدة 15 عاما كاملة.
الحقيقة ان هذه الانفاق تمثل احدى معجزات الشعب الفيتنامي بالمعنى الحرفي للكلمة.. معجزة في الصمود وفي المقاومة وفي ارادة الحياة والنصر.
هي معجزة في بنائها.. وفي الطرق العبقرية للحفاظ على سرية وجودها، وفي تأمينها وحمايتها.. ومعجزة في كيفية تنظيم الحياة بداخلها بما يتضمنه ذلك من طرق للتهوية والاعاشة والاتصال.. الخ.
في داخل هذه الانفاق، كانت توجد حياة كاملة للالاف تحت الارض.. واي حياة؟
اثناء زيارتنا، دخلت احد هذه الانفاق وسرت في داخله لنحو 100 متر فقط. واندهشت جدا، أي نوع من الحياة تحملها الفيتناميون داخل هذه الانفاق؟
النفق ضيق جدا. اتساعه هو بقدر جسد الانسان فقط. كي تسير داخل النفق، عليك ان تسير منحنيا. او بالاحرى عليك ان تزحف تقريبا.
وعلينا ان نتخيل نوع الحياة في ملجأ ضيق يقود اليه مثل هذا النفق.
أي حياة صعبة ومؤلمة وشاقة؟
لكنها ارادة شعب في ان يقاوم الهمجية، وفي ان يحيا وينتصر في النهاية.
قبل ان نتجول في منطقة الانفاق ونشاهدها، شاهدنا فيلما تسجيليا قصيرا عن مدينة كوشي وعن هذه الانفاق.
في التعليق المصاحب لمشاهد الفيلم، تقول المذيعة: كوشي.. ارض الفاكهة واشجار المطاط .. وتستعرض صور الابادة والوحشية الامريكية التي تعرضت لها المنطقة.. ثم تقول: لكن كوشي لا تموت ابدا.
نعم.. كوشي رفضت ان تموت، واذلت امريكا.
وها هي اليوم كوشي، مدينة جميلة استعادت غاباتها ومزارعها واهلها.
وهذه الانفاق ستظل دوما شاهدا على معجزة الانسان وقدراته الجبارة حين يقرر ان يدافع عن وطنه، وان يتحدى الهمجية، وان ينتصر في النهاية.
الم اقل ان روح العالم كله هنا في فيتنام؟
***
كل هذه الوحشية
متحف الحرب يقع في قلب مدينة هو شي منه.
المتحف تم افتتاحه في 4 سبتمبر عام .1975 في البداية، كان اسمه «متحف جرائم الحرب الامريكية»، ثم اسمي «متحف جرائم الحرب» ثم اصبح اسمه بعد ذلك «متحف مخلفات الحرب» او «متحف الحرب». ويقال ان هذه التسمية الاخيرة جاءت في اطار محاولات فيتنام تطبيع العلاقات مع امريكا.
على أي حال بغض النظر عن التسمية، المتحف كما هو مفهوم يقدم صورة شاملة للجرائم التي ارتكبتها امريكا في فيتنام.
وتحديدا يضم المتحف سبعة اقسام في قاعت منفصلة. قسم بعنوان، حقائق تاريخية عن الحرب. وقسم يضم مجموعة كبيرة من الصور التي توثق للحرب والجرائم الامريكية صورها 134 مصورا من 11 جنسية مختلفة. وقسم يعرض ايضا صورا وثائقية عن الحرب لاثنين من المصورين اليابانيين. وقسم يعرض لجرائم نظام فيتنام الجنوبية اثناء الحرب. وقسم يعرض لمختلف صور جرائم الحرب الامريكية. وقسم مخصص لمواد تعليمية للأطفال. وقسم يعرض لصور التضامن العالمي مع الشعب الفيتنامي اثناء الحرب. وقد شاهدت في هذا القسم صورة يتصدرها الزعيم الوطني المصري خالد محيي الدين اثناء مؤتمر جماهيري تضامنا مع الشعب الفيتنامي. وفي الساحة الخارجية للمتحف، تعرض اسلحة ودبابات وطائرات من التي استخدمت في الحرب.
المتحف يقدم باختصار وبصور مختلفة ابعاد ومظاهر الوحشية والهمجية الامريكية طوال فترة الحرب، ويظهر ما تعرض له الشعب الفيتنامي من صور ابادة على يد الامريكان.
التاريخ سجل بالفعل ما ارتكبته امريكا من جرائم حرب وابادة في فيتنام، ونحن نعرف من قراءاتنا ابعاد هذه الجرائم.
نحن نعرف مثلا ان القوات الامريكية استخدمت في اثناء الحرب 6,5 ملايين طن من القنابل، و400 الف طن من النابالم، و11,2 مليون جالون مما اسمي بـ «العنصر البرتقالي» وهي مادة كيماوية سامة استخدمت لابادة الغابات والمزارع التي يختبئ فيها المقاتلون الفيتناميون، ومازال الفيتناميون حتى اليوم يعانون من امراض السرطان وتشوهات المواليد بسبب هذه المادة السامة.
نحن نعرف الثمن الفادح الذي دفعه الشعب الفيتنامي في دفاعه عن وطنه في مواجهة جرائم الارهاب والابادة الامريكية. اكثر من 3 ملايين قتلوا، واكثر من 3 ملايين جريح، و12 مليون لاجئ، غير القرى التي ابيدت وصور الابادة الاخرى.
نحن نعرف انه ليست هناك من جريمة من جرائم الحرب والابادة الا وارتكبتها القوات الامريكية في فيتنام.. جرائم ابادة جماعية.. قتل اسرى.. اغتصاب نساء.. ابادة قرى باكملها وذبح كل اهلها.. استخدام لم يسبق ان عرفه العالم لاسلحة الابادة المحرمة دوليا.. الخ الخ.
نحن نعرف كل هذا من قراءاتنا. لكن ان تعرف هذا بشكل نظري شيء، وان تراه مجسدا امامك في متحف الحرب في هو شي منه، شيء آخر
وانت تتجول في اقسام المعرض وتشاهد بالصورة والوثائق والادلة المادية من مخلفات الحرب والشهادات المسجلة، صورما تعرض له الشعب الفيتنامي من جرائم حرب وابادة، تنتابك حالة هي خليط من الالم والغضب، ولابد ان تتساءل: ما كل هذه الوحشية الامريكية؟ ما كل هذه الهمجية؟ وفي نفس الوقت، لابد ان تشعر بالتقدير العظيم لهذا الشعب الذي رغم كل هذه الوحشية انزل بامريكا هذه الهزيمة التاريخية المذلة.
***
افتح صفحة
المحطة التالية التي زرناها وتستحق التوقف عندها والتأمل كانت «قصر إعادة التوحيد» وكان يعرف سابقا باسم «قصر الاستقلال» ويقع في قلب مدينة سايجون.
القصر كان قصر الحاكم في فيتنام الجنوبية . كان مقر الحكم لآخر رئيس لفيتنام الجنوبية دونج فان منه.
هذا القصر شهد لحظة الانتصار الكبرى.. لحظة تحرير جنوب فيتنام، ومن ثم انتهاء الحرب وتوحيد البلاد.
في 30 ابريل 1975، شهد هذا المكان لحظة «سقوط سايجون» او بمعنى اصح تحرير سايجون.
في ذلك اليوم، اقتحمت الدبابة رقم 843 بوابة القصر، والدبابة موجودة الآن في المدخل الخارجي للقصر حيث يتسابق الزوار الى التصوير بجانبها. وتلا ذلك اعلان تحريره وتحرير سايجون كلها، ثم اعلان توحيد البلاد.
قبل هذا يايام كان قد اصبح معروفا ان المعركة انتهت، وان المسألة مسألة وقت قصير وستسقط سايجون بايدي المقاومة.
وشهدت تلك الايام المشاهد الشهيرة التي سجلها التاريخ.. مشاهد الهروب الكبير للأمريكيين ولعملائهم من فيتنام الجنوبية، حيث قامت طائرات الهليكوبتر الامريكية بنقل الاف الامريكيين بمن فيهم السفير واعضاء السفارة وعملاؤهم من فوق سطح السفارة، ومن سطح مبنى آخر على مسافة قصيرة من السفارة ما زال موجودا.
السلطات حافظت على القصر كما هو بكل قاعاته ومحتوياته حيث اصبح اليوم احد اكبر معالم مدينة هوشي منه.
ونحن نتجول في اروقة القصر وبين قاعاته المختلفة، كنت اردد كلمات اغنية جميلة احفظها عن ظهر قلب، اذ سجلت لحظة الانتصار التاريخية هذه، وكنا لا نكف عن ترديدها ونحن طلبة في الجامعة. فلقد كانت هذه لحظة انتصار ليس لفيتنام وحدها، لكن لكل الشعوب المكافحة في العالم كله.
اعني قصيدة «سايجون» التي كتبها الشاعر الكبير احمد فؤاد نجم، وغناها الفنان الكبير الراحل الشيخ امام، والتي يقول مطلعها:
أبجد هوز.. حطي كلمن
افتح صفحه.. امسك قلمن
اكتب زي الناس ما بتنطق
سقطت سايجون رفعوا العلمن
طلعت شمس اليوم دا أغاني
كل ما نسمع نعشق تاني
طلعت شمس اليوم دا حريقه
تشفي الجرح وتبري الألمن
سايجون عادت للثوار
فوق الدم وتحت النار
جدوا فوجدوا
زرعوا فحصدوا
وإحنا إدينا للسمسار
نعم.. في هذا المكان الذي اقف فيه الآن وانا اكتب هذا فتح الفيتناميون صفحة جديدة في تاريخهم وتاريخ العالم كله. صفحة تحرير وطنهم والحاق الهزيمة والعار بالهمج الامريكان.
ايضا، ونحن نتجول في اروقة القصر، ونستعيد لحظة الانتصار التاريخية هذه، لا يملك المرء الا ان يتساءل عن سر هذا الشعب العظيم.. سر قدرته على الصمود والمقاومة والحاق هذه الهزيمة باكبر قوة في العالم.
والحقيقة ان السر بسيط للغاية.
السر سبق وكشفه الجنرال الفيتنامي الاسطورة الجنرال جياب حين التقى لقاء فريدا مع روبرت مكنمارا وزير الدفاع الامريكي اثناء الحرب، في عام .1995
يومها قال الجنرال المنتصر جياب للقائد الامريكي المهزوم: «امريكا دخلت الحرب دون ان تعرف أي شيء عن تاريخ فيتنام والشعب الفيتنامي.. لم تعرف أي شيء عن ثقافة الفيتناميين وروحهم الوطنية والقتالية ضد موجات الغزاة الاجانب».
الشيء الذي يبدو عجيبا ان هذا الدرس الذي لقنه الجنرال جياب لمكنارا لم تتعلمه امريكا ابدا حتى يومنا هذا.
***
إرادة الحياة
المحطة الرابعة التي اود التوقف عندها باختصار شديد هي محمية «كان جيو» الطبيعية.
المحمية تقع جنوبي مدينة هو شي منه، ووصلنا إليها بعد نحو ساعتين بالباص.
المحمية يطلق عليها «رئة سايجون الخضراء». وهي تمتد لنحو 80 الف هكتار من الغابات والاشجار الكثيفة. وفيها يتم حماية نحو 200 نوع من الكائنات البرية. وهي بصفة خاصة محمية للقرود تصول وتجول فيها، وهي ايضا محمية للتماسيح المهددة بالانقراض.
هذه المحمية لها قصة تاريخية . وهذه هي قيمتها الكبرى.
هذه المنطقة في فترة الحرب كانت مقرا لقوات المقاومة الشيوعية، الفيت كونج.
الامريكان في فترة الحرب القوا آلاف الاطنان مما سمي «العنصر الاصفر»، المادة السامة التي استخدموها لابادة الغابات. وفي فترة الحرب ابادوا الغابات التي كانت موجودة في المنطقة نهائيا. وهو نفس ما فعلوه في اماكن كثيرة اخرى في فيتنام.
غير انه بعد انتهاء الحرب، اصر الفيتناميون على اعادة زراعة هذه المنطقة، وعادت بعد ذلك غابات كثيفة تمتد على هذه المساحة الهائلة، ثم حولوها الى محمية طبيعية، واعتمدتها اليونسكو كأحد مواقع التراث الانساني المحمية.
هي اذن، ليست مجرد محمية طبيعية . هي رمز يجسد ارادة اعادة البناء وارادة الحياة لدى الشعب الفيتنامي.
***
كما ترى عزيزي القارئ وحاولت ان اوضح، في هذه المحطات الاربع تكمن ابعاد ملحمة هذا الشعب العظيم.. ملحمته في الصمود والمقاومة والدفاع عن وطنه في مواجهة اكبر قوة همجية عرفها تاريخ البشرية، وفي الانتصار، ثم البناء والحياة بعد ذلك.