الجريدة اليومية الأولى في البحرين


قضايا و آراء

«الربيع العربي» والمفاهيم المتغيرة

تاريخ النشر : الأربعاء ٢٥ يوليو ٢٠١٢



في إحدى المناسبات لتعزية احد الأصدقاء حدث نقاش حول الوضع في سوريا ويبدو ان هناك وجهتي نظر لهذه المأساة التي يمر بها الشعب السوري. النظرة الأولى تعتبر الدولة السورية على انها معقل المقاومة العربية في وجه الصهيونية والتغلغل الأمريكي في المنطقة. تنطلق هذه النظرة من ان القضية الفلسطينية هي قضية مركزية بالنسبة للأمة العربية وضياعها يمثل هزيمة قد لا تقوم الأمة بعدها. وجهة النظر هذه يتبناها البعض من الواقفين في صف الدولة السورية ليس دفاعا عن النظام نفسه ولكن خوفا على سوريا كدولة.
وجهة النظر الأخرى - التي نرى انها أكثر وجاهة ؟ ترتكز على أولا، انه لا يمكن ظلم الشعب واستعباده وحرمانه من حريته وحقه في المشاركة السياسية والاقتصادية والثقافية والإدارية بحجة عدم إضعاف الدولة أو الدفاع عن القضية الفلسطينية أو أي حجة أخرى. ثانيا أثبتت التجارب ان الشعوب هي الأقدر على المحافظة على كيان الدولة وقضاياها واستقلالية قرارها عندما تشعر بان الدولة وُجدت لخدمتها وليس سيفا مسلطا عليها. أي انه لا يمكن مقايضة حق المواطن في المشاركة في بناء الأمة مقابل تقوية الدولة، لان في ذلك تناقض صارخ ونفي للغاية من وجود الدولة في الأصل. ولا يمكن الاستمرار في هذا التناقض من دون ان يثور المجتمع، خصوصا بعد ان أصبح يعيش في عالم على درجة كبيرة من التقارب العالمي يكاد ان يصل الى درجة الاندماج الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي.
حركة التقارب العالمية بين الشعوب هي حركة تاريخية سياسية واقتصادية وثقافية ولا يمكن إيقافها وهي آخذة في التسارع والاتساع. لم يعد بالإمكان الاستمرار في حكم الشعب بالحديد والنار، وإقناعهم بالصبر على الظلم والامتيازات الطبقية والفئوية والاستئثار بالمال والسلطة بحجة عدم إضعاف الدولة أو بدعوى المحافظة على التقاليد والعادات والخصوصية المناطقية.
هذا يقودنا إلى سلسة من المقالات بقلم احمد داود اوغلو (وزير الخارجية التركية) نشرت في الصحافة المحلية تتحدث عن هذه القضية تحت عنوان الحوكمة العالمية. الفكرة التي يطرحها في مقالاته تتلخص في ان تقارب العالم يحتم إعطاء دور اكبر للفكر السياسي الشرقي والإسلامي وإدماجه في الفكر العالمي. لا يمكن ان يتصرف الغرب على انه يملك ما يكفي من المعرفة تمكنه من الاستغناء عن تجارب الآخرين. يقول انه في عالم اليوم علينا ان يكون تفكيرنا عالميا بمعنى الكلمة بعد ان كان عائليا وقبليا ومناطقيا وإقليميا. ينبغي ان يكون منطلقنا وثيق الصلة بمجالات التفاعل البشري كالسياسة والاقتصاد والثقافة وتحقيق الاندماج والتواصل الإنساني. علينا أن ندرك ان أمن أي طفل في أي مكان هو قضية داخلية لأي دولة. فلم تعد المسافات تفرق الدول والشعوب ولا يمكن ان يتصور الحكام ان بإمكانهم الإمعان في إذلال شعوبهم ثم التستر خلف غطاء رفض التدخلات الأجنبية، فهي آتية لا محالة مادام هناك كرامة إنسانية تنتهك.
أصبح هذا التفكير هو النمط السائد عالميا، تارةَ برغبة واعية من دول تريد الهيمنة على مقدرات الشعوب، وغالبا ما تكون نتيجة تلقائية وطبيعية لما آلت إليه الأوضاع العالمية من تقارب بين الأمم. لا مناص اليوم لهذا النوع من التفكير لتنمية شعورنا بالطابع العالمي الحقيقي لعالم اليوم. فلم تعد مسالة الاهتمام بالجوع في افريقيا خيارا ولا مشكلة انتهاك الحريات والتعدي على حقوق المواطن مسألة خاصة مستقلة بل دخلت في أفق الوعي العالمي.
هذا الفكر يطرح حاجة لمفهوم جديد يسميه اوغلو «الحوكمة العالمية» التي تُلزمنا بالتعامل مع المجتمعات المختلفة على انها جزء من مصيرنا المشترك ولاعب في صياغة مستقبل العالم. ينطوي المفهوم على وجود مراكز قوى متعددة، على النقيض من مفاهيم الحكم الفردي والهيمنة على الآخرين، أو ثنائيات الإقصاء مثل الداخل والخارج. وبهذا المعنى، تعني الحوكمة العالمية تفاعل الجهات المختلفة على أساس الاحترام المتبادل لمصالح الجماعات والأفراد.
ما تؤكده الأحداث العالمية اليوم هو ان الترابط في النظام الدولي يفوق قدرتنا الحالية الخيالية والإدارية للتعامل معها، كما يفوق قدرتنا على تصويرها على انها قضايا محلية لا يجوز لأحد التدخل فيها. هذه الصيغة تخضع لنموذج الترابط المنظومي الذي يجعل من مشكلة مثل انهيار أسواق المال في أوروبا ازمة عالمية أظهرت عجز مؤسساتنا في التعامل معها. ولا تختلف الأزمات السياسية في انتشارها وعولمتها عن الأزمة المالية بفعل تشابك المصالح، مثل سوريا وغيرها.
يطرح اوغلو سؤالا حول كيف يمكننا التغلب عل التداعيات السلبية لهذا العالم المترابط منظوميا على نحو متزايد في ظل قوى العولمة؟ أي كيف يكون الترابط العالمي مصدر أمن لنا (جميعا) وليس خطرا علينا؟ يتناول المناقشة من ناحية سياسية واقتصادية وثقافية ويصل الى خمسة مبادئ هامة هي:
1- الإدماج: ان تقوم الحوكمة العالمية على نظرة جامعة للعالم مع إبعاد عوامل الإقصاء.
2- الشمولية: التحديات المعقدة في عصرنا تتطلب حلولا شاملة تضع في حسابها جميع المناطق والموضوعات والأفكار السياسية والنظام السياسي والاقتصاد وثقافة كل إنسان على سطح الأرض.
3- التمثيل التشاركي: تمثيل جميع الجهات الفاعلة ذات الشأن.
4- الفعالية: الحاجة لإظهار الحزم في حل المشكلات قبل ان تتحول الى ازمات.
5- تكوين رؤية مستقبلية: تقوم على إدراك ان المصير واحد والتحرر من عبء التاريخ الذي يغص بالتحيز والآراء الإقصائية.
الخلاصة هي أن الوعي العالمي يسير في اتجاه ان حفظ الحقوق والعدالة والمساواة هي ضرورة لاستتباب الأمن المحلي والعالمي، وان ما نحتاجه هو تعزيز الوعي بالمستقبل المشترك وان أفضل طريقة لتحقيق السلام الإقليمي والعالمي هو من خلال المشاركة السياسية والترابط الاقتصادي والقبول الثقافي، فهل نحن مستعدون؟