تركيا والأزمة السورية
 تاريخ النشر : الجمعة ٢٧ يوليو ٢٠١٢
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
على مدى شهور الأزمة السورية، تغير موقف تركيا من هذه الأزمة، ما بين مساندة النظام إلى إسداء النصح له، ثم معارضته والسعي إلى الإطاحة به، وحتى يونيو٢٠١٢ حين انعقدت جلسات المنتدى الاقتصادي العالمي للشرق الأوسط وآسيا الوسطى في إسطنبول، كان وزير الخارجية التركي «أحمد داود أوغلو» كما جاء في كلمته أمام هذا المنتدى يوم ٥ يونيو الماضي قد زار دمشق ٦٢ مرة خلال ٩ أشهر في محاولات مستميتة متكررة لحمل النظام السوري على القيام بإصلاحات تنزع فتيل الانفجار من الأزمة التي توشك أن تؤدي إلى اندلاع حريق يعم المنطقة كلها أو إلى حرب أهلية تماثل في مداها الزمني على الأقل الحرب الأهلية اللبنانية، وفي هذا الصدد أعرب «أوغلو» عن خيبة أمله إزاء فشل المجتمع الدولي في اتخاذ موقف موحد من هذه الأزمة، بسبب استمرار عرقلة روسيا والصين لعمل آلية مجلس الأمن باستخدامهما حق الفيتو ثلاث مرات كان آخرها ١٩ يوليو الحالي.
وهنا يتعين توضيح مسألة مهمة قد تبرر التحركات التركية، وهي أن تركيا تمكنت خلال العقد الماضي من تحقيق معدل نمو اقتصادي سنوي يبلغ ٥,٣%، واستطاعت جذب استثمارات أجنبية مباشرة بلغت ٦ مليارات دولار في ٢٠١١، واجتازت أزمتها الاقتصادية من دون حاجة إلى صندوق النقد الدولي، ومن المتوقع أن تسدد كامل ديونها لهذا الصندوق في عام ٢٠١٣؛ إذ حققت هذا الإنجاز في محيط من الاستقرار الإقليمي، لكن الأزمة السورية توشك أن تطيح بهذا الاستقرار مع طول الحدود التركية - السورية التي تصل لنحو ٩٠٠كم، ومع استقبال أنقرة نحو ٣٢ ألف لاجئ سوري.
ولهذا فإن سرعة حل الأزمة السورية يشكل رأس أولويات أنقرة. ولذلك تحاول الدبلوماسية التركية البحث عن التوافق على مخرج من الأزمة، والعمل على إيجاد بديل لخطة «عنان».. وفي هذا الصدد، أعربت تركيا أمام مؤتمر «الناتو» بشيكاغو في مايو الماضي عن مخاوفها من استمرار وتفاقم الأزمة السورية، لما تمثله من تنامي العلاقات بين حزب العمال الكردستاني والنظام السوري، وتأثير الأزمة على تجارتها العابرة للأراضي السورية، الأمر الذي تم تفسيره على أنه سعي من جانب تركيا لإدراج الملف السوري في استراتيجيات «الناتو» طالما ظلت آلية مجلس الأمن معطلة.
حيث إذا لم تفلح خطة «عنان» أو يتغير اهتمام موسكو تجاه الضغط على «الأسد»، فإن البديل سيكون متمثلا في «الناتو» الذي يحتاج إلى دعم أمريكي بمساندة تركيا في حماية مناطق عازلة يتم إنشاؤها على الحدود السورية - الأردنية والحدود السورية - التركية، وهي الفكرة التي أعلنت أنقرة مبكرا دعمها لها، هذا الدعم الأمريكي يتوافر إذا امتدت نيران الأزمة السورية إلى الجوار بما يعجل من تغيير في الموقف الأمريكي، وهذا المطلب التركي ترى فيه المعارضة السورية إسراعا في تحقيق انهيار نظام «الأسد» وتقليلا لخسائرها، ويبدو أن الأمر يسير بسرعة نحو هذا الحل، حيث دعت تركيا في ١٦ يونيو٢٠١٢ مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ إجراء جديد يحول دون تدهور الوضع في سوريا بعد انتهاء مدة الثلاثين يوما غير القابلة للتجديد التي مدد فيها مجلس الأمن عمل بعثة المراقبين الدوليين بناء على توصية «كوفي عنان» و«بان كي مون»، وذلك في قراره رقم ٢٠٥٩ بتاريخ الجمعة ٢٠ يوليو الذي صدر بالإجماع، كما يزيد من سرعة التحول نحو هذا الحل تزايد انشقاق ضباط كبار عن الجيش السوري ولجوئهم إلى تركيا.
غير أن هذا البديل يظل مؤجلا طالما استمرت الاستجابة للتحذيرات الروسية من أي تحركات خارج مجلس الأمن، وطالما لم يتوافر له الدعم الأمريكي، من دون أن يقلل هذا من شأن الدعم التركي للثورة السورية، المتمثل في استيعاب اللاجئين والمشاركة في مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري المتعددة، وإقامة منصات وملاذات آمنة لقوى المعارضة، بل مجازفة تركيا بإعلان معاداة نظام يهددها بنقل الأزمة إلى داخل أراضيها، كما أنها أصبحت مهددة بالانجرار إلى صراع مسلح مع النظام السوري يحدد هذا النظام توقيته، وهذا ما أوضحته رسالة إسقاط الدفاعات الأرضية السورية للطائرة التركية فانتوم الأمريكية الصنع في يونيو الماضي، حيث باتت الحرب الإقليمية أقرب من أي وقت مضى، كحرب بالوكالة بين قطبي الحرب الباردة التي كان يعتقد أنها لن تعود من جديد، ولكن تركيا الأقوى عسكريا التزمت بضبط النفس آملة أن تتمكن الثورة السورية من إسقاط «الأسد» أو يكون تدخلها من خلال إطار دولي، ومع استمرار التحرشات التي كانت تقوم بها القوات السورية على الحدود مع تركيا قبل عملية دمشق، فإن تركيا تجد أمامها الباب مفتوحا في المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلنطي التي تنص على أن يقوم جميع أعضاء الحلف بتحرك لحماية حدودها مع سوريا.
فبعد ٤٨ ساعة من إسقاط المقاتلة التركية طلبت أنقرة اجتماعا عاجلا لحلف شمال الأطلسي لمناقشة الحادث إعمالا للمادة الرابعة من ميثاق الحلف، فيما اعتبر خبراء روس أن هذه الطائرة كانت تختبر المضادات الأرضية السورية الإيرانية الصنع لحساب الحلف، وتصاعد التوتر بين البلدين بعد فرار لواء سوري و٣٨ جنديا إلى أنقرة وتعرض طائرة إنقاذ تركية لنيران سورية فيما كانت تقوم بعمليات بحث في محاولة للعثور على طياري المقاتلة التركية. من الجدير بالذكر أن أنقرة لديها واحد من أكبر جيوش حلف الأطلسي، ولكن هذا العمل الاستفزازي لم يفلح في جر الأزمة السورية للخيار العسكري الذي ظل مع ذلك خيارا مؤجلا، وإن حمل الحادث أنقرة إلى تصعيد مواقفها إزاء النظام السوري بتهديده بقطع أو عدم انتظام تزويد سوريا بالكهرباء.
وفي اجتماعه بناء على طلب تركيا، اكتفى الحلف الذي يضم ٢٨ دولة بإدانة سوريا، مؤكدا أن أمن الحلف لا يتجزأ وأنه يقف مع تركيا، وقد بين هذا الموقف حرصه على منع تفاقم الصراع إلى حالة لا ترغب فيها الحكومات الغربية حاليا خشية اندلاع حرب طائفية في المنطقة، فيما أعلن «رجب طيب أردوغان» في ٢٦ يونيو٢٠١٢ أمام مجلس النواب أن الحادث يظهر أن نظام «الأسد» يشكل تهديدا واضحا لأمن بلاده، وأن أنقرة سترد في الوقت المناسب بقوة وبحزم، ومشددا على دعم الشعب السوري حتى إسقاط نظام «الأسد»، الأمر الذي انعكس في وصول هجمات الجيش السوري الحر إلى قلب العاصمة دمشق وقصف قوات الحرس الجمهوري الحامية لها واقتحام ونسف محطة الإخبارية التليفزيونية وخطف لواء طيار من بيته، ثم الانفجار الذي استهدف مبنى الأمن القومي في دمشق يوم ١٨ يوليو الحالي وأدى إلى مصرع مسؤولين كبار بينهم وزير الدفاع ونائبه ورئيس مكتب الأمن القومي ومعاون نائب رئيس الجمهورية، وبينما كان «الأسد» يتحدث عن المعارضة بوصفها جماعات إرهابية فقد اعترف بأنه يواجه حربا حقيقية أصبحت في العاصمة ذاتها، ومع استمرار تصاعد وتيرة هجمات الجيش السوري الحر تتغير المعادلة ربما في اتجاه قبول النظام السوري التفاوض مع المعارضة السورية.
إذًا لماذا لم تلجأ تركيا إلى الخيار العسكري للرد على الاستفزاز السوري رغم أنه يطول هيبتها ومكانتها الإقليميتين والدوليتين، ولماذا فضلت الأدوات الدبلوماسية؟ الإجابة عن هذا السؤال تأتي من الرهان على تصاعد قدرة المعارضة السورية وعدم استعداد تركيا لتحمل الكلفة الاقتصادية للتصعيد العسكري، وغياب الغطاء الأطلسي وخاصة الأمريكي، وعلاقات المصالح القائمة والمتداخلة بينها وبين القوى التي تدعم النظام السوري وفي مقدمتها روسيا وإيران. وفي الخيار الدبلوماسي أكدت أنقرة أن طلباتها حاليا من سوريا بشأن حادث إسقاط الطائرة هي الاعتذار والتعويض، ما يدل على أن تركيا ليست حرة في رد فعل تقوم به خارج أراضيها، فهي مقيدة بالإرادة الأمريكية التي تدرك إلى الآن أن ما يحدث في سوريا ليس فيه ما يهدد مصالح الولايات المتحدة أو أمنها، ويظل على تركيا أن تحصر دورها فيما تقوم به في الوقت الحالي من دعم لوجيستي للمعارضة وإيواء للأسر وتسريب الأسلحة ورعاية مؤتمرات مناهضة للنظام السوري والمشاركة في نظام العقوبات الدولي ضد دمشق.
إن نجاح فكرة المناطق العازلة سواء على الحدود السورية - التركية أو الحدود الأردنية - السورية، والمناطق العازلة حول المدن السورية التي يصعب وصول ساكنيها إلى الحدود يعتبر منعطفا جديدا في الأزمة السورية يأتي على خلفية فشل مهمة المبعوث الدولي «كوفي عنان» إلى الآن وعدم قدرة مجلس الأمن الدولي على إصدار قرار بهذا الشأن، مع تصاعد علاقة العداء التركي الخليجي الغربي مع النظام السوري الذي يتشبث ببقائه ويراهن على قدرته على كسب الوقت من دون تنفيذ تعهداته، وقد أصبح المسرح السوري الآن مسرح مواجهة إقليمية بين محورين متضادين: الأول تركيا ومجلس التعاون الخليجي والثاني إيران والعراق، وبينما يجد المحور الثاني سنده في روسيا، فإن المحور الأول مازال يغيب عنه الدعم الغربي الذي يتوقعه، وفي ضوء تصاعد أعمال العنف التي يقوم بها النظام السوري وفشل الجامعة العربية والأمم المتحدة في إيجاد حل مناسب تكون المناطق العازلة هي الحل المرحلي المرشح تفعيله لجعل المعارضة تتمكن من إنهاك النظام وإسقاطه.
.