من مفكرة سفير عربي في اليابان
الثقافة الإلكترونية وحكمة العقل
 تاريخ النشر : السبت ٢٨ يوليو ٢٠١٢
بقلم: د. خليل حسن *
ناقشت مجلة النيوزويك الأمريكية في عددها الصادر يوم السادس عشر من يوليو الحالي (٢٠١٢) جنون الانترنت تحت عنوان «هل الانقضاض على الانترنت يسبب الجنون؟» عرضت المجلة أبحاثا كثيرة من جامعات مرموقة، كجامعتي ستانفورد وأكسفورد، تؤكد مخاطر استخدام الوسائل التكنولوجية للتواصل الاجتماعي في الانترنت من خلال التويتر، والبريد الالكتروني، والمراسلات التلفونية، على العقل البشري، وخاصة مع ما ترافقه من ظاهرة الادمان، التي تؤدي إلى تغيرات في المخ مشابهة لتغيرات الادمان على المخدرات. فتبين الاشعة المقطعية في هؤلاء المدمنين على تكنولوجيا التواصل الاجتماعي ضمورا بارزا في بعض مناطق المخ المتعلقة بالمحادثة، والتفكير، والتحليل، والذكاء العاطفي. وتؤكد الابحاث العلمية ان الإدمان على التواصل التكنولوجي من خلال الانترنت قد يؤدي لأمراض عصبية ونفسية خطيرة، كالكآبة، والذعر، والذهان، بما يرافقها من هلوسة، وهذيان، وانفصام الشخصية، وعقدة العظمة، واضطراب التركيز الذهني.
وتبين الابحاث الطبية تغيرات نسيجية حقيقية في المخ من ضمور في مراكز المخاطبة والتفكير الذهني، لتغيرات في مركز السلوك والذكاء العاطفي، حتى مراكز الإحساس والحركة، وقد زادت نسبة هذه الامراض النفسية بنسبة ٦٦% خلال العقد الماضي.
وفي اليابان تتوافر خدمة الانترنت في ٩١% من المنازل، وفي ٩٩% من شركاتها، وقد بدأ علماء اليابان يدرسون الـتأثيرات الذهنية والنفسية لهذه التكنولوجيا في العقول والذكاء الذهني والاجتماعي والعاطفي، بل في ثقافة الأجيال القادمة.
وقد ناقش سابقا فلاسفة الغرب دور الآلة في التطور الحضاري والذكاء المجتمعي، فرآها توماس فيبلن: «قوة ذاتية، خارجة عن إرادة الإنسان، لتغير التاريخ»، وعبر عنها كارل ماركس: «مطحنة هوائية أعطت المجتمع سيد الإقطاع، ومطحنة بخارية أنشأت مجتمع الرأسمالية الصناعية». بينما تحول الإنسان، في نظر رالف والدو، إلى «جهاز جنسي للعالم الآلي»، واعتقد ماكلوهان أن «دورنا الأساسي كبشر أن ننتج آلات، حتى تضطر التكنولوجيا إلى التناسل وحدها وتستغني عنا». واعتقد ديفيد سارنوف أن «قوة التكنولوجيا في يد مستخدميها، فالآلة وسيلة لتحقق أهداف البشر، وليس لها أهداف ذاتية، ونستطيع تطويعها كما نشاء».
ويبقى السؤال المحير: هل يغير الانترنت عقولنا وذكاءنا العاطفي؟ وما تأثيراته في ثقافة المجتمع وحكمته؟
يناقش الكاتب الأمريكي، نيكولاس كار، في كتابه الضحل، التأثيرات الوظيفية والهيكلية لتكنولوجيا الانترنت والتواصل الاجتماعي في العقل البشري. فقد بينت إحصاءات عام ٢٠٠٩ أن المواطن الأمريكي يقضي متوسط ثماني ساعات في اليوم أمام شاشات التلفزيون والكمبيوتر والهاتف، بينما قدرت مدة قراءة الكتابة المطبوعة في الأسبوع، لمن يزيد عمره على ١٤ سنة، بنحو ١٤٣ دقيقة، وانخفضت بين الكهول (٢٥ حتى ٣٤ سنة) إلى ٤٩ دقيقة. وقد بينت إحصائيات عام ٢٠١٢ أن التواصل الالكتروني على شبكات الانترنت قد ارتفع إلى احدى عشرة ساعة يوميا. كما تغيرت أنماط الكتابة، فمثلا في اليابان، قامت النساء بتأليف قصص على شبكات الهاتف النقال، ليعلق عليها ويشارك في تكملة حبكتها الدرامية الكثيرون، ولتتحول لمسلسلات روائية تلفونية يقرؤها الملايين، وطبعتها دور النشر، لتباع ملايين النسخ منها في المكتبات اليابانية. وقد أصبح اليوم كل مواطن لديه صفحته الالكترونية على الفيس بوك، ليتواصل مع معارفه وأصدقائه.
وقد علق على انتشار ثقافة الانترنت البروفيسور مايكل ميرزنيش، المتخصص بدراسة التغيرات العصبية باستخدام الانترنت، فقال: «حينما تؤدي الثقافة للتغيرات في الطريقة التي نستخدم فيها عقولنا اليوم، ستنشأ عقول جديدة مختلفة».
وقد قام البروفيسور جاري سيمول، بدراسة تأثيرات الانترنت في المخ، وذلك بفحص مقطعي وظيفي لمخ ٢٤ متطوعا، وهم يتصفحون الانترنت والغوغل، فاكتشف نشاطا غير عادي في القسم الأمامي من المخ، بسبب تشكل شبكات عصبية جديدة، وقد برزت هذه التغيرات بعد خمسة أيام من التدريب على الانترنت، فعلق على ذلك بقوله: «فخمس ساعات على الانترنت، تغير شبكات عقول المبتدئين، فإذا كانت عقولنا حساسة لساعات من التعرض للإنترنت، فما الذي سيحدث حينما نضيع سنوات طويلة على صفحات الانترنت؟»، كما اكتشف اختلاف نوعية هذه النشاطات في مراكز المخ بين قراءة الكتابة المطبوعة وقراءة صفحات الانترنت. فترافقت قراءة الكتاب المطبوع بنشاطات في مراكز اللغة، والذاكرة، والنظر، وقلت هذه النشاطات في مراكز حل المعضلات، وإصدار القرارات، بينما زاد النشاط في جميع هذه المراكز (اللغة والذاكرة والنظر وحل المعضلات واصدار القرارات) باستخدام الانترنت والغوغل. ويعتقد البروفيسور أن زيادة نشاط العديد من المراكز العصبية تقلل التركيز وتصعب القراءة العميقة، بسبب تعدد المهام بين الحاجة إلى تقييم الربط الالكتروني وتحديد الاختيار وضرورة استمرار التناسق الذهني لإصدار قرارات التحكم.
وتبين أبحاث البروفيسور ستيفن جونسون أن: قراءة الكتب المطبوعة، تخفض اثارة احاسيسنا وتقلل اضطراب انتباهنا، لتحول القراءة لنوع من التفكير العميق، ليصبح ذهن القارئ ذهنا هادئا، وليس كذهن مستخدم الانترنت الهائج، «وحينما نتحدث عن إثارة الخلايا العصبية، فمن الخطأ أن نتصور أن زيادة الإثارة هي الأفضل». كما توضح دراسات البروفيسور جون سويلر أن: القراءة المطبوعة تقوي الذاكرة الدائمة، بينما يتعامل الانترنت مع الذاكرة التشغيلية المؤقتة، التي تختفي معلوماتها بسرعة، فلا نستطيع ترجمة المعلومات لخطة، لتعاني قدرتنا على التعلم ويصبح إدراكنا وفهمنا سطحيين. وحينما تتشبع ذاكرتنا التشغيلية المؤقتة، يصعب علينا التمييز بين المعلومات الأساسية والأخبار السطحية، فنصبح مستهلكين للمعلومة، وبدون ذهن يستوعبها.
ويتساءل البروفيسور نيلسون: «كيف يقرأ متصفحو الانترنت؟» ويعقب البروفيسور بالجواب: «انهم لا يقرأون»، فقد اكتشفت الدراسات أن متوسط مدة النظر في الصفحات الالكترونية تتراوح بين ١٩ و٢٧ ثانية، «فيحاول متصفحو الانترنت أن يجمعوا المعلومات بسرعة بتحريك العين والاصبع». كما بينت دراسة للمكتبات المتخصصة، أن قارئ الكتب على صفحات الانترنت، ينتقل من كتاب لآخر، بمعدل قراءة صفحة أو صفحتين، ويعلق نيكولاس كار على ذلك بقوله: من الواضح أنهم لا يقرأون على صفحات الانترنت بالطريقة التقليدية، بل بدأت تتبلور طريقة جديدة للقراءة، قراءة أفقية من العنوان، حتى صفحة المحتوى، وإلى الخلاصة، فيركضون وراء الربحية المعلوماتية السريعة، ويتجنبون القراءة العميقة، فقد فقدوا الصبر على القراءة. فمع أن سرعة البحث والتنقل بين صفحة وأخرى مهمة، ولكن أصبح التزلج على الصفحات الطريقة الجديدة للقراءة، فانعدمت القدرة على قراءة الكتب المطبوعة، وتحولنا من غارسي المعلومة الشخصية، لصيادي ومجمعي معطيات الغابة الالكترونية. وكلما زادت السرعة في العمل على الانترنت، قلت قدرة التفكير وانخفض استخدام المنطق في حل المعضلات، ليتحول البحث عن حلول للتعامل مع تحديات حياتنا، لركض سطحي سريع لحل المشكلة. وبدل دراسة تحديات المعضلة، وغرسها بأفكار جديدة مبدعة، ضعنا في غابات الانترنت، فكما قالها فلاسفة الرومان: تكون في كل مكان، يعني أن تكون في لا مكان.
لقد طور الانترنت قدرات ذكائنا المرئي والفضائي، وأضعف قدرات عمق التفكير والكسب الذهني للمعلومة والتحليل الاستقرائي والتفكير النقدي والتخيل والتأمل، كما غيرت «لدانة» المخ شبكات التواصل بين خلايانا العصبية فقوت قدرة المسح والتزلج على صفحات الانترنت، وأضعفت قدرة التركيز والتفكير العميقين. وقد أكدت الأبحاث أن متصفحي الانترنت فقدوا قدرة الانتباه، وعوضوه، بإثارة عابرة، وضعف السيطرة على ذاكرة التشغيل، وقلة التركيز، ومع أنه أتاح سرعة الوصول إلى المعلومة، ولكنه أضعف القدرة على عمق المعرفة، المهمة لتطوير الذكاء المبدع. ففي الفترة (١٩٩٩-٢٠٠٨) التي انتشر فيها بشكل واسع الانترنت في المجتمع الأمريكي، انخفضت علامات امتحانات الرياضيات في المدارس الثانوية من ٤٩,٢ إلى ٤٨,٨، والقراءة النقدية من ٤٨,٣ إلى ٤٦,٧، والمهارات الكتابية من ٤٩,٢ إلى .٤٥,٨ وتساءل نيكولاس كار: «كيف يمكن لشعب أن يكون أكثر ذكاء وإبداعا، حينما يكون ضعيفا في لغته، ولم تكثر قاعدة معلوماته العامة، ولم تزد قدرته على حل المعضلات الرياضية؟».
وقد يتساءل البعض كيف يمكن أن يؤدي الانترنت للإدمان؟ لنتذكر أن آليات البحث تعتمد أرباحها على الدعايات، وقد اتفقت مع شركات الدعاية على تحديد نسب الربحية بعدد النقرات على الموقع، فمن مصلحة هذه الشركات أن «يتزلج» قارئ الانترنت على سطح الصفحة، وينتقل بسرعة لصفحة أخرى، بل ترتب هذه الشركات الصفحات بطريقة تقلل الرغبة في القراءة العميقة، وتشجع القراءة السطحية السريعة، والقفز من موقع لآخر، وبشكل مدمن. ونتذكر عزيزي القارئ أن المخ يتكون من مليارات الخلايا العصبية، التي تنسق عملها من خلال تريليونات من الشبكات العصبية، وقد اكتشف البروفيسور اريك كندل أنه بزيادة الخبرة، وتكرار حفظ المعلومة، يزداد عدد هذه الشبكات العصبية لتتركز المعلومة في الذاكرة الدائمة، بينما تبقى معلومات الانترنت في الذاكرة التشغيلية المؤقتة، التي تترافق بالتقوية المؤقتة لوظيفة الشبكات العصبية، بدون زيادة عددها. كما بينت الأبحاث التغيرات الذرية في الشبكات العصبية، فتنتقل الأحاسيس والأوامر والمعلومات عن طريق مادة الجلومات، التي تنظم إفرازها مادة السريتونين، بينما تؤدي مادة الدوبامين إلى ترسيخ الذاكرة، وذلك بتنشيط صنع الخلية العصبية بروتينات خاصة لتشكل شبكات جديدة.
وينهي نيكولاس كار كتابه بالقول: «نحتاج إلى تطوير عملية التفكير، لتعلم السيطرة على الوعي لاختيار ما نريد الانتباه له لتشكيل معنى للخبرات التي نعيشها، ويختلف ذلك عن تواصل الانترنت الميكانيكي، الذي يضعف القدرات العقلية ويؤخر ثقافة التواصل البشرية. فالثقافة ليست أرقاما تكنولوجية، ولتبقى ثقافة حية، تحتاج إلى صقلها بالتفاعل مع الطبيعة، وترسيخها وتجديدها في العقول جيلا بعد آخر، وحينما ننقل الذاكرة البشرية لبنك معلومات خارجي، نهدد التميز الفردي، والعمق الثقافي المجتمعي، لتذبل الحضارة، وكلما زاد اعتمادنا على الكمبيوتر والانترنت لفهم العالم الذي يحيط بنا، تسطح ذكاؤنا العقلي، وفقدنا توازن الذهن وحكمة العقل».
ولنا لقاء.
* سفير مملكة البحرين في اليابان
.