الثقافي
قضايا ثقافية
البديل أم الدليل؟
تاريخ النشر : السبت ٢٨ يوليو ٢٠١٢
يسألونك عن البديل ولا يتطرقون إلى الدليل.
هنا تكمن واحدة من أهم المشاكل في المناقشات الثقافية التي نتوجه إليها ونصطدم بأن المتحاورين لا يعرفون (البديل) أو فكرة (البديل) ذاتها، فتتورط معهم كيف تقنعهم إذا كانت لديهم الفكرة مسبقة أو محشوة في عقولهم.
حين يتمسك الإنسان بالشيء البديل فهو يعتقد انه جدّد فكره وثقافته ووسَّع مداركه وصار بإمكانه أن يجلس مع عتاة المثقفين ويحاورهم ويجادلهم أو يفرض عليهم ثقافته أو ما قرأ من كتب أو مقالات أو بحوث، ويشعر في نهاية المطاف بأنه انتصر وعليه أن يتمسك بالبديل من دون أن يعي أو يُدرك ما هو الدليل.
تقول له إن ثقافتك بالية وعليك أن تبحث من جديد و(تفلترها) بأسلوب حضاري فالإصرار على الثقافات القديمة هو الإصرار نفسه على السير فوق الأشواك من دون الشعور بالألم فالسادية يمكنها أن تُحرف طريقك لكنه يصر على أن موقفه سليم وبعد فترة من الزمن يكتشف انه بِلا دليل.
في هذا الزمن الجميل، يُدركُ الكاتبُ أن ما يثيره من قضايا ثقافية هي مجرد إضاعة للوقت والعقول وبعثرة للجهود، والإنسان الذي نعتقد انه يتابع الكتب والمقالات ويقرأ ويبحث ويتبحر حتى في الوحل ليس هو الذي نكتبُ من أجله، ولكن عليك أن تُجيب عن سؤال ذاتي: كيف تكتب لمن لا يقرأون؟
زملاؤنا يرون المسألة كأنها مجرد رغبة في استنطاق الورق أو التعامل مع جهاز بارد وجامد كالتعامل مع حرارة عالية تأتيك من المناخ الأوروبي ولا ضير أن تستمر في الحرث ويعلمون ان الحرث في الماء يساعد السمك على الهروب أو الانقراض ومحاولة قلي أو شي الرمل تؤدي بك إلى اكتشاف عناصر جديدة للمادة التي يمكنها أن تفسر الصورة من دون أن تعرضها.
في الوجود الثقافي تبرير يمكن اللوذ به، كأن تلوذ بالفرار، لكنه في نهاية المطاف كذبة ثقافية تؤذي المشاعر الرومانسية للمثقفين، الذين يعتقدون أنه من الضروري أن تُحترم العقلية حتى لو لم تكن قد تخطت درجة الانصهار، لكنك تسأل كيف يمكنني أن أكون منصهرا وغيري لم يذق التجربة؟
إنك حين تذهب إلى خباز المدينة أو القرية التي تعيش فيها ولا تجده مفتوحا لأن رغبتك في خبز ساخن، وهو قد أغلق الخباز، لأنك جئت إليه متأخرا، ولا تذهب إلى البدائل الكثيرة المتوافرة التي هي في مقام الخبز أو التي تقوم مقام الخبز في إشباع جوعك وترفضها، أو تعتقد أن الخبز هو المادة التي بمفردها تشبع جوعك، تُعد من جماعة المُنظرين لعالمٍ خالٍ من السنابل وفي كل سنبلة مائة حبة، فالطحين هو نتاج السنابل والخبز هو نتاج كل شيء، والبديل الذي لا يختلف عن عجين الخبز هو الذي يسميه البسطاء في المدن والأرياف (الروتي) أو (السليس) وهما تسميتان للغتين ثقافيتين على درجة عالية من الثقافة القاموسية.
في بلادنا نسمي الخبز (القُرصْ) وفي مصر يسمونه (العيش) وفي كل مكان من العالم العربي له تسمية بديلة أو خاصة وفي الهند (جباتي) وفي انجلترا (بريد) مع تخفيف حرف الباء.
إن الدليل هو التجربة والبديل هو الاختيار بعد التجربة، وبمعنى أدق لا يمكن أن يكون البديل بِلا دليل.
لو قلنا إن المخلوقات الموجودة على ظهر البسيطة التي تعيش حتى يومنا هذا أو التي انقرضت، لابد أن يكون لها بديل فالدجاجة في زمن الجاهلية ليست الدجاجة في زماننا هذا، وإن أصر واحد منا على ألا يأكل إلا دجاجة من زمن الجاهلية وإن قدّمنا له دجاجة من العصر الحديث فيها الكثير من التوابل والمشهيات ولم يقترب منها فماذا نقول له؟
إن قلنا له إن الفكرة (الماركسية) لا تصلح لزماننا وأصر عليها فماذا نقدم له، أي بديل مناسب لها؟
وإن قلنا له إن (الرأسمالية) هي المسيطِرة الآن والمال في أمثالنا العامية يقال له (عديل الروح) فكيف نقنعه بالثقافة الرأسمالية؟
البديل والدليل فكرتان لهما قواعد وأسس فالذي لا يقدمه الشاعر المتنبي ويقدمه الشاعر المعري ليس لهما علاقة بالبديل والدليل لأن المتنبي يختلف عن المعري والماركسية ليست كما الرأسمالية لكن عندما تقول إن الأسد ملك الغابة عليك أن تقدم الأدلة المقنعة ولا يمكن لأي (حمار) موجود في الغابة (الحياة) إلا أن يقتنع بأنه لو سقط بين فك الأسد لأصبح في خبر كان.
هذا هو الفرق بين البديل والدليل وإن أبسط المخلوقات وهي الحشرات، لا يمكن أن تقبل (النملة) أن تنام مع (صرصار) أو يُقبلها فوق السرير