الاسلامي
تزكية النفس من أعظم مقاصد الشريعة
تاريخ النشر : الأحد ٢٩ يوليو ٢٠١٢
إن المؤمن كيس فطن وكياسته تقتضي أنه إذا وجد حلاوة الإيمان وأنس لذة العبادة، أن يبادر فيتخذ من هذه الطاقة الإيمانية مددا لتغيير حاله والترقي في درجات الإيمان والقرب من ربه ومولاه جل في علاه ولا يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
القارئ الكريم،
ما تقول في رجل أصابته الأمراض في بدنه كله، واستفحلت في كل عضو من أعضائه وفشت واشتدت عليه حتى أشرف منها على الهلاك، وسعى في علاجها بكل سبيل، وطلب الشفاء منها بكل وسيلة، فما نفع دواء، ولا أسعف طبيب، حتى بلغ منه اليأس، وأيقن بالعطب، فبينما هو على تلك الحال، إذا قيل له: أبشر، فإن دواءك موجود في المستشفى الفلاني، فهرول إليه وهو غير مصدق بالفرج، فما إن وصله حتى استقبله من هناك أحسن استقبال، وأكرموه وخلعوا عنه ثيابه الرثة التي لوثها المرض، وأبدلوا بها أحسن منها، وطيبوه ونظفوه وبدأوا علاجه، فجعلوا يمرون به على كل قسم من أقسام المستشفى، فينال فيه أوفر عناية وأنجح علاج؟
فما هي إلا مدة وجيزة حتى تماثل للشفاء وعاد في أتم صحة وعافية، وأراد أن يفارق المستشفى ويعود إلى حياته وأعماله، وقبل أن يسمحوا له بالخروج عقدوا له مجلسا ليعلموه وينصحوه، فقالوا له افعل كذا، فإن فيه دوام صحتك وعافيتك، وإياك وكذا وكذا، فإنه يرد عليك المرض ويضعفك، وكل كذا، واشرب كذا ولا تشرب كذا، وإياك ومجالس كذا وكذا.
فما إن خرج المسكين من عندهم حتى اقبل على ما كانوا قد نهوه عنه فعمله، وكل ما أمروه به فلم يعمل منه شيئا، فلم يمكث إلا قليلا حتى عاد إليه المرض اشد مما كان، وصار في شر حال.
فما تقول فيه؟
أحمق قطعا.
وأي إنسان أشد حمقا من هذا؟ أبعد أن ردت إليه عافيته بعد أن كان قد يئس منها، يضيع ذلك كله؟ فكيف إذا أخبرتكم بمن هو أشد منه حمقا؟
رجل اقبل على الشهر الكريم وقد أثقلته الأوزار، وناءت بكاهله الذنوب، وأظلمت روحه من كثرة المعاصي، وتشتت شمل قلبه، واجتمعت على روحه آلام الوحشة والبعد عن الله تعالى.
فبينما هو كذلك إذا نادى المنادي أن ظهر هلال رمضان، فانقشعت الظلمات، وصفدت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وغردت المآذن بالذكر والقرآن. فآوى ذلك العليل المشرد إلى بيوت الله، فوقف بين يديه ونهل من القرآن، واعتصم بالذكر، وتحصن بالصوم، فإذا بالروح تتحرر من رق الشهوات، وتزول عنها الآلام، وتذوق طعم السعادة ولذة العبادة، وإذا بالصدر ينشرح، والقلب يرق والنفس تصفو.
فعلم صاحبنا علم اليقين أن راحة النفس العليلة المكدودة، وشفاء الصدر، وطمأنينة القلب، ليست في كثرة المال، ولا في إقبال الدنيا، ولا في تحصيل المشتهيات، وإنما زاد الروح وسعادتها في الصلاة والتضرع إلى الله، والذكر والدعاء، وتلاوة القرآن والاجتماع بأهل الإيمان.
وعلم كذلك علم اليقين أن الغفلة عن الله، وانتهاك محارمه، والاستهانة بأمره، سبب شقائه واسقامه وآلامه، فكيف تقولون لو خرج من الشهر بعد هذا كله فعاد إلى ما كان فيه من سقمه ومرضه وألمه، وترك ما فيه سعادته وعافيته؟
فإذا به قد خبثت نفسه، واحتوته الشياطين من كل جانب، إنه والله اشد حمقا من الأول.
من أجل هذا أردنا أن نورد هذا الجدول العملي الميسر الذي بني على التيسير ومراعاة الأحوال، والإمكانيات والطاقات والأشغال، وكان الهدف منه تبيين وظائف المسلم في يومه وليلته التي ينبغي أن يحرص المسلم على المداومة عليها في زمانه كله.
فهذه عائشة رضي الله عنها تصف عمل النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: "كان عمله ديمة" أي: يداوم عليه (متفق عليه) وعنها رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها (أي من طول صلاتها وكثرة ما تصلي لله تعالى) قال: "مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، ومن أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه".
قال الإمام النووي رحمه الله: و"مه" كلمة زجر ونهي، ومعنى "لا يمل الله": لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم.. حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه وفضله عليكم، والثمرة لا تجنى إلا بالمداومة، والمداومة تعطي العمل قوة هائلة وتأثيرا بالغا، فلو أن البحر الخضم انسكب مرة واحدة على صخرة لانسال من فوقها، ولم يؤثر فيها شيئا، أما لو تتابعت قطرات الماء.. تسقط قطرة بتتابع واستمرار لأثرت في الصخر الجلمود ولأحدثت فيه ثقبا.
إن تزكية النفس من أعظم مقاصد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة/2)، وقد أقسم سبحانه وتعالى في أول سورة الشمس أحد عشر قسما متتاليا، لم يرد في القرآن مثله، على فلاح من زكى نفسه، وخيبة من أهملها ودساها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله تعالى يسأله تزكية نفسه: "اللهم آت نفسي تقواها وزكها يا رب، فأنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها" (رواه مسلم).
وهذه التزكية لا تحصل إلا لمن حافظ على الطاعات من الفرائض والنوافل، وداوم عليها واتقى ما حرم الله تعالى، ومن فعل ذلك دخل في قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "من عادى لي وليا آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وان سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه".