دراسات
التطبيع العربي - الإسرائيلي ليس في مصلحة القضية الفلسطينية
تاريخ النشر : الاثنين ٣٠ يوليو ٢٠١٢
جاءت واقعة حضور "عوفير برانشتاين" مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل "اسحق رابين" الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية المغربي لتعيد إلى الأذهان قضية التطبيع العربي - الإسرائيلي.. تلك القضية التي أثارت الكثير من الجدل والنقاش على مدى عقود لجهة مبرراتها ومدى جدواها للدول العربية، والأهم دورها في خدمة القضية الفلسطينية وعملية السلام في الشرق الأوسط.
فالملاحظ من نماذج التطبيع التي جرت بين دول عربية وإسرائيل (بمقتضى معاهدات سلام ثنائية، أو بمقتضى أشكال للتعاون غير المعلن) أنها جاءت لصالح الدولة العبرية التي نجحت في كسر طوق المقاطعة المفروض عليها منذ عام 1948، ولم تعد بأي إيجابيات ذات قيمة سواء على الدول العربية المعنية، أو على القضية الفلسطينية (قضية العرب المركزية).. بل على العكس استغلت إسرائيل التطبيع لوأد عملية التسوية والتنكيل بالشعب الفلسطيني ومحاولة قتل حلم الدولة الفلسطينية المشروع.
فكأن المقاطعة التي فرضها العرب على إسرائيل بما ترتب عليها من عزلة وخسائر إسرائيلية كانت أمضى وأكثر فاعلية من التطبيع الذي كانت ومازالت إسرائيل تبذل كل جهد لديها من أجل توسيع نطاقه بحثا عن مزيد من الاندماج في المحيط العربي الذي تعيش فيه.
ونظرا لأهمية قضية التطبيع وما تثيره من جدل متجدد حول جدواه ومدى خدمته للقضية الفلسطينية قد يكون من المهم إلقاء الضوء على البحث الذي قام مؤخرا المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات القطري بنشره تحت عنوان: "زيارة للقدس في ظل الاحتلال: هل هي تأييد لترسيخ الوضع القائم أم للتطبيع؟"، فهذا البحث يوضح وبشكل كبير عواقب تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، مركزا وبصورة وخاصة في التأثير السلبي "لعملية التطبيع" سواء في الشعب الفلسطيني أو القضية الفلسطينية.
ويدحض البحث خطوة مثيرة للجدل اتخذها "محمود عباس" رئيس السلطة الفلسطينية خلال المؤتمر الدولي الأول للدفاع عن القدس بالدوحة حين حث مسيحيي ومسلمي العالم العربي على زيارة المدينة التي تحتلها إسرائيل والصلاة في المسجد الأقصى.. وقد قام "عباس" ـ في مخالفة واضحة للتوجه الرافض تماما لإسرائيل من قبل العديد من الدول العربية الذي تؤيده الغالبية العظمى من الشعوب العربية ـ بتقديم مثل هذا العرض اعتمادا على قناعته بأن تدفق المسيحيين والمسلمين العرب إلى القدس سيساعد على تعزيز المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي بالنظر إلى القدرة المفترضة لمثل هذه الزيارات على كسر قبضة إسرائيل على القدس.
ولقد سعى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بهذا البحث إلى تفنيد تفسير "عباس" المضلل للإيجابيات المفترضة التي قد تترتب على السياحة الدينية في القدس من خلال تقديم إطار عمل تحليلي يقوم على القرينة.. وتستلزم العناصر الرئيسية لإطار العمل هذا تعريفا لمفهوم "التطبيع" في حد ذاته، ليتم الانطلاق إلى تحليل عملية التطبيع في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كما يمكن استخدام هذا الإطار أيضا كنقطة انطلاق للتنويه بالدروس التي لابد من تعلمها من مدى الاستفادة التي تحققت لإسرائيل لجهة الحصول على الشرعية وتكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية من خلال الأسلوب الخاطئ الذي طبقته مصر (حيث قُيدت يديها بشدة منذ توقيعها معاهدة كامب ديفيد)، وأيضا الأسلوب الذي اتبعته السلطة الوطنية الفلسطينية (التي يقال إن وجودها في حد ذاته قد تقرر بشكل مسبق من خلال تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل واستمرار عملية التسوية المتعثرة). وبشكل أوسع، فقد تمت صياغة هذا البحث بعناية من أجل إقناع القارئ بالمخاطر المرتبطة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، موضحا أن المبادرات المضللة الشبيهة بتلك التي أعلنها "محمود عباس" (تشجيع السياحة الدينية إلى القدس) تعد بمثابة تهيئة للأجواء من أجل الكسر (النهائي) للحاجز النفسي الذي يمنع حاليا غالبية الشعوب العربية من المشاركة في أي شيء له علاقة مباشرة بإسرائيل؛ إذ بمجرد إضعاف الحاجز النفسي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، تتعزز بالتالي شرعية الدولة العبرية، الأمر الذي يضر بالشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية مثلما توضح التجارب التاريخية.
ولقد بذل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات جهدا كبيرا لتوضيح الطبيعة المعقدة لعملية التطبيع، مسلطا الضوء على الأهمية الخاصة لميزان القوى القائم بين الأطراف المتنازعة.. وكانت وجهة النظر التي طرحت هي أن التطبيع يمكن أن يستخدم ليصف ليس فقط علاقات "طبيعية" بين بلدين، ولكن أيضا قبول دولة لشروط دولة أخرى أقوى (مثال: قبول ما يعتبره الطرف الأقوى أمرا "طبيعيّا" وفقا لمعايير اهتمامه) واعترف البحث بالصلة الواضحة بين الجملة السابقة وعدم توازن القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مسلطا الضوء على المسار الذي سلكه التطبيع في الصراع العربي - الإسرائيلي، مشيرا إلى كيف أن التطبيع أدى إلى تحول إسرائيل من "كيان استعماري استيطاني" و"محتل" و"وجود أجنبي" في المنطقة إلى كيان شرعي يحظى بمكانة طبيعية ضمن الدول الأخرى في المنطقة، كل ذلك من أجل "السلام"، أو ما يصفونه بـ"عملية السلام" رغم أن شرعية إسرائيل هي موضع كثير من الجدل في العالم العربي وأيضا على المستوى الدولي الأوسع نطاقا.
ومثلما علق المركز، تحمل كلمة "تطبيع" دلالات سلبية في جميع أنحاء الوطن العربي، وهي عادة مرتبطة بمعان وصور سلبية، وأفاد المركز العربي للأبحاث أن فهم العرب للدلالات السلبية المرتبطة بالتطبيع، قد يرجع إلى أن ذلك يعني أن العرب سيستسلمون لوجود إسرائيل، أو أن ذلك سيعني نهاية الصراع العربي الإسرائيلي قبل التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.. وقد يكون ذلك أيضا بسبب الطريقة السرية التي يدير بها بعض الدول العربية التطبيع مع إسرائيل في محاولة لتحسين علاقاتها مع القوى العالمية على حساب القضية الفلسطينية.
وهنا يشير المركز بالفعل، إلى أن دولا عربية عديدة مثل سوريا والجزائر والسعودية ولبنان مازالت تفضل اتباع النهج الرافض كليا للتعامل مع إسرائيل على مختلف الأصعدة دبلوماسيّا وسياسيّا واقتصاديّا، ومثل هذه السياسة رحبت بها أغلبية الجماهير العربية التي مازالت متحدة في معارضتها لوجود إسرائيل، واستمرارها كدولة غير شرعية، وزاد من سخطها ما تراه على أرض الواقع من حملات إرهاب وتنكيل تقوم بها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وبشكل يومي.
ورغم ذلك، تشير الأدلة إلى أن النظرة الإسرائيلية للتطبيع سادت على مر الزمن إلى درجة معينة، مما مكن إسرائيل وبشكل فعال من تعزيز وجودها (غير المشروع) في المنطقة، بالإضافة إلى تمكينها من تشكيل الطريقة التي تم بها رسم عملية السلام حتى الآن.. وكما ورد في بحث المركز العربي، فقد وقعت مصر والأردن معاهدات سلام ثنائية مع الإسرائيليين، وهذه المعاهدات نتج عنها تعاون اقتصادي مع الدولة الصهيونية، بينما فضلت دول عربية أخرى إقامة علاقات مع إسرائيل في إطار من السرية، في محاولة لتجنب حدوث اضطرابات شعبية نتيجة لذلك.
وبحسب البحث، فإنه وكما هو واضح في حالة مصر، تعد قدرة إسرائيل على تحييد الخصوم السابقين من خلال تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية حتى الأمنية معهم أمرا يبعث على عدم التفاؤل لكل من كان يأمل في قيام دولة فلسطينية مستقلة. وقد لخص البحث العلاقات التي أقيمت تدريجيّا بين مصر وإسرائيل؛ حيث إنه يرى أن معاهدة كامب ديفيد الموقعة في 17 سبتمبر 1978 كانت هي الخطوة الأولى لأبرز التطورات التي حدثت فيما بعد.. فالمعاهدة ؟ بحسبه - لم تؤدِ فقط إلى تحييد دور وموقف مصر فيما يتعلق بالصراعات السياسية والعسكرية مع إسرائيل، ولكنها حولت فكرة التطبيع إلى هدف استراتيجي بالنسبة إلى إسرائيل على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية.
ولقد ألقى البحث الضوء على اتفاقية السلام الموقعة في 1979، لافتا إلى أن تعديل مناهج التعليم المصرية لتشجيع المزيد من الانفتاح تجاه الإسرائيليين وكذا اتفاقية تصدير الغاز في عام 2005 تعد دليلا على بعض التطورات المهمة التي حدثت في أعقاب معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.. كما يؤكد البحث أن تعزيز العلاقات بين البلدين كان له تأثير ضار في الفلسطينيين، وخاصة أن المعاهدة أصبحت الركيزة الأساسية لعلاقات مصر الخارجية وللعلاقات المصرية الأمريكية تحديدا، وزعم أن المعاهدة جاءت على حساب الدور المصري كقوة رائدة في المنطقة العربية؛ حيث يرى أن مصر فقدت الكثير من مظاهر الفاعلية والنفوذ بعد هذه المعاهدة وباتت الدبلوماسية المصرية تقوم بدور وظيفي لصالح الجانب الإسرائيلي، واقتصرت جهود مصر على ممارسة الضغوط على القيادة الفلسطينية للموافقة على الاشتراطات الإسرائيلية.
وبناء على ما سبق سعى بحث المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات إلى تفنيد الأكذوبة التي تقول إن تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيؤدي إلى تغيير في الموقف الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، فالحقيقة هي أن التطبيع بالنسبة إلى الدولة العبرية ليس سوى وسيلة لعزل الفلسطينيين كشعب وكقضية، وبدلا من أن تكون القضية الفلسطينية هي محل اهتمام عربي مشترك، فإنها تصبح قاصرة على الفلسطينيين وحدهم.
وخلاصة القول: لقد أثبتت الأحداث أن تصور الرئيس المصري الراحل "أنور السادات" لم يكن في محله؛ إذ كان يعتقد أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ستكون مقدمة للوصول إلى اتفاقية سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل وبمقتضاها ستقام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
بيد أنه في الواقع ووفقا للبحث أدت هذه المعاهدة إلى عزل مصر عن محور الأحداث التي تحيط بالقضية الفلسطينية، مما أعطى مجالا للإسرائيليين للمناورة من أجل سن قانون القدس لعام 1980، وهو القانون الذي أعلن أن مدينة القدس (بما فيها القدس الشرقية) "بشكل كامل وموحد" عاصمة لإسرائيل، كما أعطى هذا القانون أولوية أخرى لما سمته إسرائيل "خطط التنمية"؛ حيث سمح بزيادة الاستيطان اليهودي في القدس الشرقية الفلسطينية، وباتت نسبة السكان الفلسطينيين المحددة - قانونا - في المدينة نحو 22% فقط.. كذلك نما النشاط الاستيطاني في أنحاء الضفة الغربية بوتيرة أسرع بعد المعاهدة.. وأيضا شن الإسرائيليون في عام 1982 الحرب الأولى ضد الوجود الفلسطيني في لبنان، ومن دون أي تدخل عربي في هذا الصدد.
ووفقا للأدلة المذكورة أعلاه، فإن توقيع معاهدة كامب ديفيد كان له تأثير غير مقصود في منح إسرائيل نوعا من الثقة؛ حيث إنه مع تحييد الدور المصري أخذت تل أبيب تكثف جهودها لممارسة الهيمنة على الفلسطينيين.. وهو ما يدعو إلى القول إن معاهدات السلام الثنائية بين الدول العربية وإسرائيل مهدت الطريق لحرب واحدة المسار ضد الفلسطينيين.
ويمضي بحث المركز العربي في تسليط الضوء على كيف وصل هذا التهاوي ودورة القمع التي تلت توقيع معاهدة كامب ديفيد إلى أبشع صوره في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو، وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية.
فمسار أوسلو لم يقد سوى إلى مزيد من النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. ووفقا لقانون القدس المعدل 2001 بات الحصول على القدس بالكامل وإبقاؤها عاصمة "أبدية" للشعب اليهودي، وكذلك حماية المستعمرات، هي الشروط الإسرائيلية قبل الانخراط في أي مفاوضات مع الفلسطينيين.. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التعديل جعل من غير القانوني بالنسبة لأي حكومة إسرائيلية نقل أي من "مسؤوليات" السلطات الإسرائيلية في المدينة إلى أي سلطة سياسية خارجية، وبالتالي منع الحكم الذاتي الفلسطيني في القدس، ولم يُشر إلى السماح بالحصول على جزء من المدينة لتصبح عاصمة للدولة الفلسطينية.
ويشير البحث إلى أن سبب وجود السلطة الوطنية الفلسطينية يكمن في أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بعملية التطبيع مع إسرائيل، فهذه السلطة منذ نشأتها في عام 1994، يلاحظ أن شرعيتها السياسية، ونطاق عملياتها ومسؤولياتها حتى هيكل سلطتها المدنية تستند إلى فكرة التطبيع مع إسرائيل.. وفي الحقيقة، فإن التعاون الأمني الفلسطيني - الإسرائيلي والمشاريع المشتركة هي شرط مسبق لتأمين الاستثمار الأجنبي، وتمويل البنية التحتية للسلطة الوطنية الفلسطينية.
وهكذا، يمكن القول إن تشكيل السلطة الفلسطينية ووجودها الراهن يعتمدان على إبقاء الوضع على ما هو عليه - أي تطبيع العلاقات مع إسرائيل - وهو ما تسبب في إضعاف القضية الفلسطينية، والواضح أن تعثر عملية التسوية من خلال إجراء مفاوضات غير جدية بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية قد حرم الفلسطينيين من القدرة على أخذ زمام المبادرة والمساهمة في عملية صنع القرار الوطني، فضلا عن فقدهم الدعم والتضامن الدوليين.
وفي مناقشة ما إذا كانت دعوة "عباس" للعرب المسيحيين والمسلمين للقيام بزيارة القدس ستثبت نجاحها في تحقيق أهدافها المعلنة (إضعاف قبضة إسرائيل على المدينة، والتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين) قدم البحث استنتاجين في سياق اعتراضه على هذه الدعوة والآثار الضارة بمسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل على الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، فالنتيجة الأولى التي تم استنتاجها تؤكد أن دعوة "عباس" تقوم بتهيئة الأجواء لكسر الحاجز النفسي العربي من أجل تطبيع العلاقات كما سبقت الإشارة، مما يمنح إسرائيل درجة من الشرعية، ويسمح لها بأن تصبح كيانا طبيعيا في المنطقة.. وقد يتطلب ذلك الحصول على تأشيرة دخول من السلطات الإسرائيلية، ومن ثم ختم جوازات السفر العربية بأختام إسرائيلية. وسنرى العرب يقومون بزيارة المسجد الأقصى كجزء من الزيارات لإسرائيل، وكل هذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الاعتراف الكامل بإسرائيل.
والاستنتاج الثاني الذي تم التوصل إليه ينتقد القيادة الفلسطينية الحالية وقراراتها غير المدروسة التي أنتجت عادة سياسات - مثل التظاهر بإجراء مفاوضات- مكنت إسرائيل من تشتيت الموقف الدولي المُدين لتوجهاتها من عملية التسوية في حين ساعدت السلطة الفلسطينية على إخفاء عيوبها.. فبحسب البحث فإن دعوة "عباس" هي مجرد حيلة للهروب من المعضلة التي تواجهه؛ فبعد فشل المحادثات مع الإسرائيليين، أصبحت القيادة الفلسطينية غير قادرة على النظر في بدائل أخرى، وبدلا من وضع استراتيجية فلسطينية للتعامل مع قضية القدس، فإن دعوة "عباس" ليست سوى شبه محاولة لحل المشكلة.
وفي الخلاصة، فإنه بالنظر إلى وجود حالة عدم يقين في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن التي ترجع إلى موجة الانتفاضات الشعبية التي جاءت في الصدارة في عامي 2011 و2012، وما ترتب عليها من تغيرات جذرية في بعض أنظمة الحكم (ومنها نظام مبارك في مصر)، لذا فقد أصبحت إسرائيل أكثر قلقا بسبب تلك التغيرات الراديكالية التي تحدث في المنطقة؛ حيث تسعى من أجل التأقلم مع حقيقة أن الشعوب العربية بدأت تعبر عن نفسها، ولديها إرادة لا تتزعزع من أجل إعادة هندسة أنساقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في إطار منظومة ديمقراطية متكاملة.
وعلى نحو واضح، فإنه بالنظر إلى مشاعر الكراهية التي تكنها الأغلبية الساحقة من العرب حيال إسرائيل بسبب طريقة تعاملها مع الفلسطينيين، وبالنظر أيضا إلى الدلالات السلبية المرتبطة بمسألة التطبيع، فإن علينا أن نرى كيف يمكن لما يسمى "الصحوة العربية" أن تؤثر في مكانة إسرائيل في المنطقة؟
الملاحظ أن التطورات الحالية في مصر قد استحوذت على اهتمام حكومة "بنيامين نتنياهو" والرأي الإسرائيلي وذلك لخشيتهما من التهديد الذي تفرضه هذه التطورات على العلاقات الإسرائيلية - المصرية عقب تنحي "حسني مبارك" وصعود جماعة الإخوان المسلمين. وقد تصاعدت حدة المخاوف الإسرائيلية عندما تم اتخاذ قرار من قبل السلطات المصرية في ابريل 2012 بإلغاء اتفاقية تصدير الغاز التي أثارت جدلا واسعا عام 2005؛ حيث كان يوفر نسبة 40% من الغاز الطبيعي الذي تحتاج إليه إسرائيل بسعر أقل بكثير من سعر السوق، وزادت حدة التوتر في إسرائيل عقب الانتخابات الرئاسية، وإعلان فوز الدكتور "محمد مرسي"، مرشح جماعة الإخوان المسلمين بمنصب الرئيس على الرغم من قيام "مرسي" بتهدئة المخاوف الإسرائيلية من خلال تأكيد التزام مصر بما أبرمته من اتفاقيات ومعاهدات دولية، بجانب تركيزه في حل المشاكل الداخلية.
وبطبيعة الحال، فإن مصر قد تشعر بالقلق إزاء بعض التداعيات الاستراتيجية التي قد تنشأ نتيجة تخليها عن معاهدة السلام لعام 1979، مثل اقتحام القوات الإسرائيلية المحتمل لشبه جزيرة سيناء، وقيام الولايات المتحدة بسحب المساعدات الاقتصادية والعسكرية المهمة.. ولكن مع ذلك، يمكن القول الآن وأكثر من أي وقت مضى إن مصر تتمتع بوضع مهم وحيوي يجعلها تضغط على إسرائيل، التي تعاني عزلة دولية، وذلك للتفاوض بشأن معاملتها للفلسطينيين.
ورغم أن ذلك السيناريو غير محتمل في ضوء رغبة مصر الشديدة في الحصول على المساعدات الأمريكية، وأيضا الاستقرار الذي توفره المظلة الأمنية الأمريكية، فإن مصر قد تسعى إلى التضامن مع الدول العربية الأخرى والتهديد بالتخلي عن خيار السلام، الأمر الذي سيؤدي إلى مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة بمشكلة كبيرة تبدوان غير مستعدتين لها في الوقت الراهن، وذلك في ظل انشغال الرئيس "باراك أوباما" بالانتخابات الرئاسية، وأيضا تصميم "نتنياهو" على إيجاد مبرر لتوجيه ضربة وقائية ضد إيران.
وقد يجادل البعض بأنه من الأفضل بالنسبة إلى مصر أن تنتظر لترى كيف تسير الانتخابات الأمريكية، فإذا تمت إعادة انتخاب "أوباما"، فربما يكون هناك أمل في أن يكون قادرا على ممارسة ضغوط أكبر على إسرائيل من أجل الاستجابة لمطلب الفلسطينيين المشروع في إقامة الدولة المستقلة.
ورغم أن احتمال قيام مصر بالتخلي عن معاهدة السلام مع إسرائيل يبقى احتمالا مستبعدا، فإن ثمة حاجة إلى طريقة جديدة للتفكير، وذلك للتعامل مع حالة الجمود التي تشهدها حاليا عملية السلام، تلك الحالة التي تتسبب فيها إسرائيل بسبب نهجها المتعنت ورفضها الالتزام بما يفرضه عليها السلام من استحقاقات.
وفي الختام يبقى التطبيع بين العرب وإسرائيل تطبيعا بين الحكومات وليس تطبيعا بين الشعوب.. فالشعوب وكما سبقت الإشارة ترفض إسرائيل وترفض التعامل معها.. والدليل أن إسرائيل فشلت حتى الآن في إيجاد مقر بديل لسفارتها بالقاهرة بسبب رفض المصريين وجود هذه السفارة.. وستظل الشعوب العربية رافضة للتطبيع مع إسرائيل مادامت القضية الفلسطينية لم تحل ومادام الشعب الفلسطيني لم يحصل على حقوقه كاملة، ولاسيما حقه في الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.