أفق
تحديدُ (عصرنا)
تاريخ النشر : الثلاثاء ٣١ يوليو ٢٠١٢
عبدالله خليفة
من الصعوبةِ بمكان تحديد مواقعنا الموضوعية على خريطة الزمن، فالبشريةُ الغربية في زمنيتِها الخاصة العالمية ويدخلُ فيها من يدخلُ في التصنيع والتحديث والديمقراطية، فهي ليست زمنيتنا، فنحن نعيش القرن الواحد والعشرين شكلاً، وفي الرزنامة فقط، فيما تتعدد أزمتنا العربية، الزمن المصري والتونسي ليس هو زمن الجزيرة العربية، ولا هو زمن السودان.
إن زمنية الخروج من العصر الوسيط تختلف بين الأقطار المقاربة للتحول الحديث والأقطار التي لاتزال خارج التحول.
وقيادة القوى الدينية للتحول الجديد هي بمثابةِ إشكالية كبيرة، فهل هي تقودنا للعودة إلى العصور الوسطى وزمنية التقليد وعصر الطوائف، أم هي تريد أن تعبر بنا نحو حداثة الشعوب المنتشرة التي تُقاد غربياً؟
لاتزال أوهام الزمن راسخة لدى القوى السياسية، فكشف طبيعة المجتمعات الشرقية الاستبدادية التنموية كانت بمثابة صدمات كبيرة، لم تُستوعب بعد.
لقد خيل للكثيرين أن هذه النقلات التي حدثتْ في الأبنية ونقل الآلات والأجهزة الغربية والقيام بالمشروعات الكبيرة، أننا انتقلنا من مجتمعاتنا التقليدية الشرقية وأصبحنا في مصاف الدولِ المتقدمةِ التي اجتازتْ الحدودَ القوميةَ فأنشأتْ الدولةَ القارة.
يكفي أننا شكلنا الأحزابَ والدول الوطنية والاشتراكية والقومية والاسلامية لنكون في مستوى الشعارات، لكن انفجار الحروب الأهلية وتفجر الصراعات الطائفية والعودة لحبس النساء وتفشي الممنوعات وتحول رأسماليات الدول من قيادات للتحرر والنهضة إلى قيادات لخنق الحرية وتصدير الأسلحة لذبح الشعب السوري على سبيل المثال لا الحصر، وهي كلها تدعونا للعودة لمعرفة زمننا التاريخي الحقيقي، وقراءة علاقاته الاجتماعية بموضوعية وتحديد المهام السياسية والاجتماعية والاقتصادية الممكنة التي تشكلُ نقلةً للخروج مما نحن فيه من تطاحن طائفي كشف لنا حقيقةَ أوضاعنا العامة وأفكارنا المتخلفة، وتنظيماتنا الورقية وعجزنا عن تحقيق مصالحات ووحدات وطنية محدودة، بدلاً من أن نزحف نحو الهاوية.
لهذا تشكلُ مراجعاتُ التجاربِ التاريخيةِ وكشفَ أعماقَها ونزع سرابَها وتحديدَ حجمَها التاريخي، وكسرَ الأوهامَ المعبودة، ضروروات فكرية لتحديد الزمن.
وسوف تتغلغل التحليلاتُ أكثر فأكثر للتواريخ الوطنية، فمن العالمي إلى المحلي، من الشرقي الاستبدادي المركزي، لنماذجهِ المنتشرة في الأقطار العربية والإسلامية، من أجل كشف المسرح التاريخي الذي مشينا فيه وقفزنا ثم ترنحنا على صخوره ونيرانه.
خاصةً أن مسلسلَ الطيران عن التاريخ الموضوعي لا يتوقف، فثمة أناسٌ حالمون جددٌ يمتشقون السيوف الخشبية نفسَها ويحاربون طواحين هواء، ففي الوقت الذي يريدون إنشاء الخلافة تتحارب الأزقة في أي مدينة، وتصدعت دولٌ كانت متماسكة، وتحاربت أديانٌ كانت صديقة لبعضها بعضا، وكانت الثقافاتُ تغرفُ حتى من العصور البدائية والنهضات الأولى في بدء التاريخ، وكان الناس يحبون ديلمون وحضارتها الوثنية والحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية اللتان جاءتا بعدها من دون خوف من حقبة دون أخرى، وتمسكاً بالإنسانية النهضوية، والآن هشموا حتى الوحدة الإسلامية، وصارت الطوائف تسنلا السكاكينَ لبعضها بعضا، وهذا الموقف المخزي من الثورة السورية والصمت عن المذابح الرهيبة وخرس البيانات الصادحة التي كانت تتناثر فوق الرؤوس لأي ظاهرة عادية تبين مدى الخزي الذي وصلتْ إليه هذه القوى السياسية.
الغرق في المستنقعات الطائفية وتبدل النظارات وامتلاؤها بوحلِ المرحلة يشيرُ إلى هذه الزمنية المتراجعة في العديد من الأمكنة الاجتماعية حتى عن زمنية النهضة.
خاصةً أن القوى الشمولية السياسية والاجتماعية قامت بتأجيج عواطف العوام ودفعهم عبر ثقافة الغرائز ليعود الزمن بنا إلى زمن دويلات الانحطاط، أي إلى ما قبل زمن النهضة العربية.
ثمة بقع مكانية اجتماعية، غير بقع أخرى، وثمة فئات غير فئات أخرى، وثمة رموز لم تسقط في المستنقع، ولم تبدل نظاراتها بل اكتشفت طبقات المستنقع وجذوره.